سر مقاس M

سنوات طويلة كنت أحلم بها أن أصبح سمينة جدا لدرجة أنني أخبرت أصدقائي بأنني أتمنى لو ذلك الباب يضيّق على جسدي! كنت ساذجة إلى أبعد أحد.. لكن تعليقات الناس على نحافتي كانت أشد سذاجة، لماذا تنتقد جسد الآخر؟ ماذا لو كانت نحافتي جراء مرض أو اعاقة ما. كان بعض الأصدقاء ينادوني ب ‘بسكوتة’، لم أهتم لذلك و كنت أضيف ‘مغموسة بشاي بنعنع’.

خلال السنتين الماضيتين زاد وزني بشكل ملحوظ، ربما بعد أن التقيت بوحشي السويدي الذي يأكل أي شيء، مرة صرخت في وجهه و قلت ‘قل لي ماذا تكره من المأكولات’، نظر إلي مستغربا و أجاب ‘ممم الجزر المشرح مثل جزر وجبة غداء مدرسة رودين’. انفجرت ضاحكة و تناثر الأكل من فمي على الجدار الخشبي. و يوما بعد يوم كنت أتحول إلى وحشة صغيرة و آكل نفس الكمية التي يأكلها شريكي. حتى أتى صيف الكورونا، و بدأ السويديون يجهزون للاحتفال بمنتصف الصيف. طلبت فستانا من موقع على الانترنت، مقاس S كما اعتدت. وصلني الطلب و كان المقاس صغير على جسدي! ألقيت اللوم على المصممين الذين لم يكونوا دقيقين في المقاسات. قمت بطلب فستانا آخرا من ماركتي المخلصة، زارا، و فكرت بأن هذه المرة يجب أن أطلب مقاسين S و M من باب الاحتياط. جربت المقاس الصغير فاختنقت منه، المقاس الأوسط كان رائعا جدا. فرحت كثيرا لأنني قمت بفكرة طلب مقاسين. لكن، فجأة، و بينما كنت أخلع الفستان، شهقت، ناديت على صديقي، ‘تعال، انظر بسرعة’. سمعته يجري و يقول ‘ماذا حدث؟’. رميت الفستان و قلت ‘لقد سمنت، ألا ترى ذلك؟’. قال ‘لا’، قلت ‘بلى’ و وقفت على الميزان، كان الرقم بالضبط ’55’. لم أزن نفسي من قبل، كنت فقط أنظر إلى نفسي في المرآة بعد ارتداء ملابسي بحجم S. كنت مرتبكة جدا، لا أريد أن أصبح سمينة، كنت بلهاء بخصوص الباب الضيق على جسدي.

بعد احتفال منتصف الصيف زاد وزني كيلو، داهمني القلق، صرت أزن نفسي يوميا عدة مرات خلال اليوم الواحد، الرقم لا يتزحزح عن الخمس و خمسين!. صرت أبحث عن سر المقاس M، ربما خلل في عمل الغدة الدرقية؟ ربما احتباس سوائل في جسدي؟… إلخ

اتصلت على العيادة القريبة من شقتي القديمة، قلت للسكرتيرة ‘أريد أن أحجز موعدا في المختبر’، سألتني ‘ما نوع التحليل الذي تريدينه و لماذا’، ‘تحليل دم، الغدم الدرقية’.

ذهبت في اليوم التالي إلى العيادة و توجهت مباشرة إلى المختبر، سحبت ورقة الطابور و كان رقمي بعد ثلاثة أشخاص، جاء ممرض افريقي و نادى على رقمي، تبعته و دخلت المختبر، طلب مني رقم الهوية ليؤكد قدومي على الجدول في حاسوب العيادة. أزاح رأسه عن الشاشة و طلب مني اعادة رقم هويتي، ثم قال ‘لا يوجد هنا حجز باسمك!’. قلت مستنكرة ‘كيف؟ هذا موعد تحليلي!’. أعاد الممرض كتابة رقمي و لكنه لم يظهر أية معلومات، فاقترح علي أن أذهب إلى السكرتيرة و أستفسر منها عن المشكلة.. هناك، شرحت للفتاة العراقية التي تتحدث العربية المكسرة، و بينما أخبرها بغضب أن الممرض لم يجد معلومات حجزي، كانت الفتاة تضحك و تحاول كتمان صوت ضحكتها، قالت بصعوبة ‘لا يمكنك أن تقرري بنفسك و تذهبي لعمل تحليل دم، الطبيب هو من يقرر مشكلتك و اذا ما احتجت تحليل دم أم لا’. قلت باحتجاح ‘لا داعي لذك، أعرف ما أريد’. لم تستمع إلي و حجزت لي موعدا مع الطبيب بعد ربع ساعة.

لم يكن سواي في غرفة الانتظار، جاء الطبيب و قذم نفسه إلي و أخذني إلى غرفته. بدأ يسألني أسئلة تتعلق بأعراض الغذة الدرقية، و كان كل شيء ايجابيا. ثم بدأ يسألني بابتسامة كبيرة ‘هل تأكلين الشوكولاتة؟ الايس كريم؟ تجلسين كثيرا؟…’. تلك الأسئلة الأخيرة، يا لها من أسئلة، نعم أيها الطبيب، أشارك وحشي كل تلك الأشياء اللذيذة، و مع ذلك أريد تحليل دم. تأمل الطبيب جسدي و قال بصوت ممزوج باللا جدية ‘لا تحتاجين إلى تحليل، فقط راقبي ما تأكلينه و تحركي كثيرا’. ‘لكنني أريد تحليلا، أشعر بأنني بحاجة إلى ذلك’. استسلم الطبيب لطلبي لأن موعد عمله سينتهي بعد دقائق و كتب لي على ورقة قائمة بالأشياء التي سوف أحصل على نتائجها، كمية الحديد و الفيتامينات مثلا..’

في اليوم التالي، اتصل بي الطبيب و أخبرني بأن كل النتائج طبيعية و لا داعٍ للقلق!. سعدت لسماع ذلك، و بعثت رسالة إلى صديقي ‘أنت السبب، ما العمل الآن’.

اليوم، و بعد أسبوع من تنظيم الأكل بحزم و قلق، فقدت كيلو واحد فقط… أنظر إلى جسدي الصغير في المرآة الكبيرة و أقول ‘لمن يصممون تلك الفساتين؟. كم كنت مخطئة تجاه جسدي و مقاساتي السخيفة. من يرتدي تلك الفساتين؟ المصممون و دور الأزياء ينتجون ملابسا تسبب القلق للنساء، ملابس بمقاسات اجتماعية تخرط جسد المرأة و تزهق روحها الجميلة في القلق و التفكير. إنهم يفصّلون حياة النساء على مقاس فساتينهم’.

صالون الأقدام السعيدة

حجزت موعدا في صالون ‘الأقدام السعيدة’. ذلك هو روتيني كل نهاية شتاء، أنظف قلبي من عتمة الشتاء السويدي الطويل و آخذ قدماي إلى صالون خاص للتخلص من الجفاف و الجلد الميت الذي تسببه البرد و حذائي السميك. لا بد من بداية طرية لصيف لا تغيب شمسه.

خططت لموعد الصالون قبل أسبوع، فعملي الرائع يسمح لي بحرية التخطيط. غادرت شقتي الواقعة في الطابق الأخير، أحب أن أخبر أي شخص أنه لا يوجد طوابق فوق شقتي، حتى كتابة ذلك يجعلني سعيدة، فقط سطح مثلث لونه أسود من طراز الستينات. كلمة طراز تخدعني و تجعلني أشعر كأنني أعرف في العمارة و تاريخها، لكنني أعرف جيدا أنه عندما تم الانتهاء من بناء البناية التي أعيش فيها، كان أبي يعيش في بيت ذا سقف مليء بالثقوب و مصنوع من الزينكو. قبل سنتين كنت أعيش في قاع المدينة، البناية التي قطنتها كانت مبنية منذ منتصف العشرينات، وقتها كان جدي و جدتي يعيشان في بيت صغير جدا مدعم بالطين. البيوت تفصح عن قصص كثيرة، بعضها جميل رغم الفقر.

إنه يوم الأربعاء، الساعة الواحدة عند الظهيرة. الشمس ساطعة مثل تلك التي رأيتها في مغامرات نيلز. الناس ينتشرون بسرعة تحت الشمس، كل خيط من ضوء الشمس يحيك الحياة من جديد، ها هو بار هانكسن يعج بالناس، معظمهم أولئك المتقاعدين الذين يصرفون نصف راتبهم و وقتهم في نفس البار مع نفس الأصدقاء و مع نفس البيرة الرخيصة. هانكسن يشبه أي بار في استكهولم، ما أن تمر عنه و تلاحظ وجود كراسي في الخارج، تدرك بسرعة أن الصيف هنا، حتى و إن كان الجو باردا.

قبل أن أدخل الصالون، تأكدت من أنني وضعت جواربي الجديدة في حقيبتي، كانت هناك، جواربي المفضلة التي تعلن عن استعدادي للصيف. استقبلتني امرأة صينية تضع كمامة على وجهها، قالت ‘أنت كاتر’، قلت ‘نعم أنا كوثر’. قالت ‘الصالون تحت، هناك الدرج’. نظرت حولي لأعرف أين الدرج، لكن كان المكان محوط بجدران مغطاه بلوحات مرسوم عليها أقدام جميلة و بشعة. سألت المرأة ‘أين الدرج؟’، أشارت بيدها نحو قدم كبيرة مرسوم بجانبها قنينة حليب. اختفت المرأة الصينية و بلعني الدرج إلى الطابق الأرضي.

كانت امرأة شقراء جدا و سمينة تنتظرني عند نهاية الدرج، مايا-ليسا، قدمت نفسها بسرعة، و قالت ‘أهلا بك، الجو فوق رائع جدا، هل اعتنيت بقدماك من قبل؟’. قلت ‘نعم، ارتدت صالونا قريبا من شقتي السابقة’. ضحكت مايا-ليسا و قالت ‘حسنا، هل أنت هيبستر؟’. ضحكت مثل ضحكتها السخيفة و قلت ‘نعم، أتيت من هورنشتول’. (هورنشتول أحد الأحياء الراقية في استكهولم و يجذب الشبان الهيبستر). شهقت و قالت ‘هل حقا ولدت في ذلك الحي؟’. لم أفهم ما تعنيه، ربما صدقتني، لا يهم.

طلبت مني المرأة أن أخلع حذائي بينما انشغلت بتحضير الماء الدافىء و الملح، سمعتها تشهق من جديد، قالت ‘هل أحضرت معك جواربا غير مستعملة؟’. قلت ‘نعم..’. قاطعتني ‘ذلك يثبت أنك هبستر’. يا الهي ما علاقة ذلك بذلك؟؟ كنت على وشك مناقشتها، لكنها أمسكت بيدي و سحبتني نحو كرسي واسع، جلست بقليل من التوتر، جاءت و مدت يدها تحت الكرسي و بدأت تتحكم بعلوه إلى أن تدلت قدماي و لم تلمسا الأرض. أزاحت سطلا لونه وردي و نقعت قدماي في مزيج الماء الدافىء و الملح و بعض الوردات الصغيرات جدا.

كانت المرأة تحضر الأدوات الخاصة و تراقب قدماي باستمرار بينما كنت أراقبها أنا أيضا. خمنت من أي بلد جاءت، لكنتها كانت أجنبية، مألوفة و سمعتها من قبل، سألتها بفضول ‘من أين أنت؟’ أجابت ‘من آخر فنلندا’. فرحت لأنني أصبت التخمين. و من وقتها لم تتوقف مايا-ليسا عن الثرثرة.

كنت أتطلع إلى لحظة سكون و هدوء.. صالون الأقدام السعيدة يقبع تحت الأرض، بارد و فوضوي و تديره امرأة فنلندية ثرثارة.

فجأة سأتني ‘هل أبوك على قيد الحياة؟’. يا له من سؤال! قلت ‘نعم’. تابعت ‘هل يعيش في استكهولم؟’. قلت ‘لا، في فلسطين’. رمت آلة تقشير الجلد على الأرض ببلاهة و سألت ماذا يفعل هناك؟’. أجبت ‘هناك بيته و حياته منذ ولد’. التقطت الآلة و رشقتني بالأسئلة ‘ظننت أنك سويدية. كيف أتيت إلى السويد، متى، لماذا…؟’. لم أجب على كل الأسئلة، كنت متعبة من تكرارها. نصحني الطبيب بأن أقول للجميع أنني أتيت من الحرب و أسرد قصتي بالتفصيل كي أتخلص من الذكريات المؤلمة. لكنني لم أستطع سرد قصتي لمايا-ليسا. كانت هي الأخرى لديها قصة و قصص كثيرة. عدَلت من جلستها و هي تقول ‘كانت أسرتي فقيرة جد ا، عشنا الفقر و التراجيديا في الثلج و الحرب مع الاتحاد السوفييتي. انضم أبي إلى الجيش السويدي و حارب السوفييت بقوة و ولاء’. عدّلت من جلستها مرة أخرى، كانت تفعل ذلك كلما أرادت التحدث عن شيء محزن، تابعت ‘أنا صادقة جدا، لا أشتاق إلى أبي. عاد من الحرب و صار مدمن كحول و بعد سنة انتحر لأنه لم يستطع التخلص من ذكريات الحرب و القتال. كان يضربنا كثيرا… كرهته حتى الأسبوع الماضي. بعد انتحاره بأشهر قليلة، لحقته أمي و قتلت نفسها بالكحول. لا أعرف هل كان انتحارها اشتياقا لأبي القاسي أم ضياعا. ما رأيك يا كاتر؟.’. تلعثمت و قلت ‘لنكن متفائلين و نقول كان انتحارا من أجل الحب و الاشتياق’، و سألتها ‘لقد كرهت والدك حتى الأسبوع الماضي. هل بدأت تحبينه أم ماذا تقصدين؟’.

رفعت رأسها نحوي، و مسحت وجهها بيدها، لم تبالي بجلد قدمي الميت الذي تناثر على وجهها و هي تمسحه، تابعت حديثها و أجابتني ‘الأسبوع الماضي حلمت بأبي، كان مع جارنا القديم كالّي، ذلك الرجل الطويل الذي علمني السباحة، كان الاثنان يتبادلان النكات المسلية و يحصدان البطاطا… كان حقلا كبيرا و أخضرا. حاولت التحدث مع أبي، لكنه لم يسمعني، كان يضحك و يحصد البطاطا. شعرت بالسعادة عندما استيقظت من النوم، الآن أعرف أنه نسي ذكريات الحرب و لم يعد فقيرا، فالآن يملك حقلا و يبدو أنه بصحة جيدة’.

وحشة صغيرة تخبئ معجون التمر

العيد على الأبواب، نقول ذلك مع اقتراب انتهاء شهر رمضان المبارك. اختلفت أبواب العيد منذ انتقالي إلى السويد و لم أعد أحتفل بشيء، و أنا التي كنت مفعمة بكل تفاصيل أعيادنا مع تقاليد أمي في آخر ليالي رمضان. كانت تنظف البيت بنشاط و سعادة غامرة، و بعد مرحلة التنظيف تبدأ بعمل الكعك و المعمول… أذكر جيدا عندما كانت تسيّح السمن البلدي على نار هادئة ثم تضيفها إلى وعاء كبير مملوء بالسميد و الطحين و البهارات ذات الرائحة القوية و الخاصة. كنت أجلس على الأرض أمام الوعاء و أتفرج على حركات يديها و هي تفرك العجينة بعناية كما يجب. ثم تترك العجينة حتى بعد موعد الافطار. في الليل كانت تخرج العجينة و تضعها في غرفة الجلوس، تصنع كرة صغيرة و تقول لنا، نحن بناتها الستة ‘أريد الكرات صغيرة مثل هذه’، و تذهب لتحضر معجون التمر، فتضيف إليه القرنفل و القرفة و الزبدة. تتعب أيدينا من صنع كرات العجينة و حشوها بكرات معجون التمر و تشكيل الكعك. مهمة أمي تصبح خبز الكعك و المعمول. كان الفرن في بيت الدرج، نحمل إليها الصواني، الرائحة تفوح في البيت، و في كل الحارة. في الحقيقة إنه لمن المستحيل أن يمر يوم من أيام أواخر رمضان بدون شم رائحة الكعك في الحي، و كأن الجيران اتفقوا على توزيع أيام الخبز واحدا تلو الآخر. و اللطيف في الأمر أن الجميع سينتهي بخبز نفس الكعك، إلا أنهم يتبادلون كعكاتهم بأكياس صغيرة أو صناديق كرتونية للتفاخر أو المغايظة بأن احداهن صنعت كعكا أكثر هشاشة من كعك الجارة الأخرى.

مرة انتقل إلى البيت المجاور لنا، سكان جدد، فبعثت لنا الجارة صينية كاملة من الكعك. و كما هو معروف، فإنه من الصعب ارضاء أمي بغير كعكها. من المخجل أن الجارة أرادت التعرف و التقرب منا بكعك محشو بالحلقوم، مخجل جدا، لم تحب أمي ذلك أبدا، لكنها بعد أيام تقبلت الأمر و أحالت ذلك إلى الابداع الفاشل، على الأقل حاولت جارتنا أن تغير الطريقة التقليدية و استبدلت معجون التمر بالحلقوم، حشوة سيئة.

قبل سنة قررت أن أحتفل بالعيد و اشتريت معجون التمر من دكان عربي في استكهوم. مرت أيام و أشهر و أنا لم أجرؤ على فتح القالب أو التفكير بصنع الكعك. كنت قد انتقلت مؤخرا إلى ذلك البيت الواقع في شارع الريح، كلما فتحت خزانة البقوليات و رأيت قالب معجون التمر هناك، يزداد تذمري؛ من البيت الذي لا أحب موقعه و من القالب الذي يشغل بالي بوجوده. لم أحب الحياة في الغابة و لم أحب فكرة عمل الكعك بدون أمي. مرة سألني صديقي ‘هل تسمحين لي بتناول بعض الشوكولاته مع القهوة؟’. قلت له مستغربة ‘طبعا’. يا له من سؤال!! لكن بعد دقائق، وجدته يحضر كوب قهوة و يتناول قالب معجون التمر و يقطع قطعة كبيرة!. استهجنت فعلته تلك و سحبت القطعة من يده بسرعة، خاف مني، كنت مثل وحشة صغيرة أبرم و أخبئ قالب التمر.

فقط قبل يومين حسمت الأمر، حملت قالب المعجون و قطعت طريقا طوله ساعتين، ذهبت إلى أختي في الجزيرة النائية في أرخبيل استكهولم… حضرنا عجينة الكعك و بذلنا جهدا في تطرية معجون التمر الذي جف من انتظار استخدامه.

يومياتي في مصنع البلازما، 2

قضيت ساعات طويلة أعمل مع زملائي على عملية فصل البلازما و الحصول على مادة مهمة اسمها كريو. حصلنا على ٢٠ كيلو كريو من ١٠٠٠ كيلو بلازما (ثمنها حوالي مليوني يورو). و يحصل ذلك باستخدام جهاز خاص يشبه بعمله الخلاط الكهربائي، و يدور آلاف الدورات خلال ثوان عديدة.

كنت أراقب العميلة بمتعة فائقة و أنا أرمي بين الفينة و الأخرى نكتة مملة لطرد الخوف. إنه الخوف من الانتقال إلى غرفة التجميد. قلت لزميلي روني ‘هل بامكاني أن آخذ حفنة كريو معي إلى البيت’. نظر إلي دون أن يجيب، فأكملت ‘حفنة بعشرين ألف يورو؟’. امتعض روني و قال’يكفي هذا، ساعديني في نقل الكريو الآن’.

وضعنا سطل الكريو على ناقلة معقمة و جرها روني نحو غرفة التجميد. قبل الدخول، شدني أحدهم من طرف بلوزتي و قال بسرعة ‘لا، انتظري. يجب أن تضعي نظارات واقية، هل ترتدين سترة داخلية؟’. أجبته بنعم و تلقفت من شخص آخر النظارات. أحدهم صاح في وجه روني ‘أحمق أنت، كيف لم تعطها نظارات و أنتم داخلون إلى التجميد؟’.

تجمدت شفتاي، لا من البرد، بل من الخوف. تابعت خطوات روني الحذرة، حتى وصلنا إلى سطل معدني كبير، سحب روني أنبوب طويل و ضغط على زر لونه أحمر، ثم بدأ النيتروجين يملأ السطل، كانت الاشارة على اللوحة الالكترونية للأنبوب تشير إلى أن درجة حرارة النيتروجين وصلت الآن إلى مائتي درجة تحت الصفر. كان الحماس واضحا في حركات روني و هو يبدأ بوضع الكريو قطعة وراء قطعة في سطل النيتروجين… قال لي و هو يرمي قطعة ‘هيا، تعلمي كيف ترمي الأشياء في الغيوم’. أخذت قطعة و رميتها بيد مرتجفك من بعد مسافة، سقط نصف القطعة على الأرض، فصاح روني ‘يا الهي لقد رميتِ عشرة آلاف يورو على الأرض’. قلت له و صوتي يرتعش ‘أريد أن أغادر الغرفة، أنا خائفة’.

كان بخار النيتروجين قد ملأ الغرفة و لم أعد أرى شيئا، كنت كما لو دخلت في غيمة كبيرة. جررت قدماي نحو الخارج و خطوة بعد خطوة كنت أرى كتفي ثم يداي ثم بطني ثم قدماي، حتى خرجت من الغيمة الضبابية البيضاء و رأيت كلّي.

يومياتي في مصنع البلازما 1

منذ أيام قليلة بدأت العمل في أوكتافارما، أكبر شركة عالمية منتجة للبلازما و البروتينات البشرية. و بالفعل إنها شركة كبيرة، أقصد هنا حجم مبانيها الواقعة في استكهولم. يصل بين المباني جسور و يوجد مصاعد كهربائية في كل مكان إلى جانب السلالم و المكاتب و غرف الاستراحة و المطعم الواسع…. و الأهم من كل ذلك، الأبواب. لا أستطيع تخيل عدد الأبواب هناك، انها أشبه بمتاهة، خصوصا انني أسوأ شخص في العالم في تحديد الاتجاهات و معرفة الطرق.
عملي مع البلازما يتطلب ملابس خاصة، معقمة بعناية فائقة، نقوم بتغييرها في غرفة كبيرة، تحتوي على مئات الخزانات و الأقفال و لكل شخص مفتاح و خزانة يضع فيها ملابس التغيير.
المهم أن خزانتي موقها في غرفة تغيير تم بناؤها حديثا، و للوصول إليها، أحتاج العبور عبر آلاف الأبواب و المصاعد و الجسور و النزول تحت الأرض ثم الطلوع و فتح الباب النهائي ببطاقة مغناطيسية.
اليوم غادر زملائي العمل باكرا، و قد نسوا أن هنالك فتاة ضائعة لا تعرف الاتجاهات. فكرت بانني يجب أن أتعلم بسرعة طريق الوصل إلى غرفة تغيير الملابس و منها إلى موقع عملي و ثم الطريق إلى البوابة الخارجية للعودة إلى البيت. كل تلك الطرق المهمة لا أعرفها بدون رفقة روني، الشاب المسؤول عني في العمل.
جلست في غرفة شرب القهوة، و فردت في ذاكرتي خريطة الشركة و الطرق المؤدية إلى غرفة ملابسي. ثم ذهبت باتجاه الجسر الذي بدا لي ممدا في جهة الغرب، ثم انعطفت إلى جهة اليسار ثم دخلت بابا و نزلت ثلاث درجات، طلبت المصعد الكهربائي و نزلت إلى الطابق الأرضي حيث أذكر أن الغرفة هناك، لكن وجدت شيئا غير ذلك. تحولت غرفة ملابسي إلى مخزن تجميد البلازما؟
شعرت باحباط و خوف شديد و كدت أبكي، ذهبت بالمصعد إلى الطابق الخامس، و هناك لم أعرف كيف أعود إلى غرفة القهوة، ضعت تماما، و لم يكن ثمة شخص أسأله ليدلني. مشيت على الجسر بيأس.. و في نهايته وجدت زميلي ليف، قلت له أنني أحتاج تغيير ملابسي و العودة إلى البيت، قال ‘جميل، أراك غدا، باي’. بسرعة استدركته ‘لا لا، أريد مساعدتك في ايجاد ملابسي’. سألني ‘أين هي؟’. قلت له ‘تحت الأرض’. تشوش ليف و شرحت له طريق الوصول، لكنه لم يقتنع لأن الطرق التي وضحتها له كانت باتجاهات غير منطقية، فقرر أن يتصل بروني، الشخص الوحيد الذي يعرف أين ملابسي. وصلني صوت روني الغاضب جدا من سماعة تلفون ليف، ‘يا للجحيم، يجب أن تعرف كل الأبواب و الطرق…’.
أخيرا وجدنا غرفة ملابسي… قبل أن يتركني ليف في الغرفة، تأكد من أنني سأعرف كيف أغادر الشركة. و هكذا عدت إلى البيت متأخرة جدا.

71230120_10217403530055204_4254112544878231552_n
صوة بجانب باب غرفة تغيير الملابس, توضح امرأة تقف تحت الدوش لضمان النظافة قبل الدخول إلى غرفة فلترة البلازما.

بار متجمد في صيف حار

كنت جالسة في المقهى وحيدة، أفكر بأمي، أشتاق إليها كثيرا، أشتم غزة.. في عز حزني و غضبي يأتي شاب غريب، يرتدي بلوزة بيضاء، يقول بدون تردد ‘أريد أن أجلس أمامك’. وحدتي تسمح له بالجلوس، يواصل الشاب ثقته و يسألني من أين أتيت، و يفاجأ بأنني من مدينة بعيدة جدا جدا عن كل العالم، ينهال عليّ بالأسئلة…

نغادر المقهى معا، الشاب يمسك بيدي و يأخذني إلى بار متجمد في فازاغاتان، يساعدني في ارتداء المعطف الثقيل الذي استعرته من البار، لأننا سندخل شتاء قاسيا في وسط صيف استكهولم، ندخل البار و نطلب كأسي نبيذ بارد، فأنا أصبحت أشرب الكحول منذ شهر، نجلس على كرسيين متجمدين، الطاولة متجمدة، الجدران متجمدة، السقف متجمد، الحياة هناك كانت في أقصى تجمدها.. نظر الشاب إلي وقال ممازحا ‘هكذا يبدأ الحب’. بعد ساعة غادرنا البار المتجمد غريبين مثلما التقينا…

في القطار كنت أفكر ‘كان عليّ أن أقبّله’، بينما كانت أمامي امرأة تقول لصديقتها ‘إن أردت أن تستمعي إلى قصتي، أحتاج إلى صوفا للتمدد و البدء بفتح فمي للأبد’.

شارع الريح

و أخيرا وجدت الوقت للكتابة. و بالمناسبة لقد قمت بأول خطأ املائي للتو، كتبت كآبة بدل كتابة، لكن لم يكن أي مغزى وراء ذلك، فقد تركت الكآبة منذ زمن بعيد عندما غادرت غزة، إنها ليست مدينة الكآبة فقط، بل مدينة كل شيء معتم و مخيف، أسمح لنقسي بكل حزن واثق أن أصفها ببالوعة المستقبل المضيء، لا يوجد هناك زمن المستقبل.

كنت في عطلة صيفية حارة في اسطنبول، مضيت أسبوعين أتسكع في الشوارع الرائعة طلوعا و هبوطا، و أتنقل من مقهى إلى آخر، حتى انني أحيانا أصبت بالحيرة من كثرة الأماكن الجميلة، أيهما أختار؟. شعرت في تلك الأيام أن روحي استعادت رشاقتها من جديد و شحنتها الأماكن بصخب سيتمكن من مواجهة الشتاء السويدي القادم و الذي يعود بسرعة و يستمر طويلا بقسوة و احباط.

في منتصف العطلة، بدأ حماسي يتبدد، و بدأت أشتاق إلى استكهولم و بيتي هناك، و فكرت بجدية أنني المرة القادمة لن أسافر لمدة أكثر من أسبوع. في نفس الوقت كم شعرت.. بماذا؟ لست دقيقة إن قلت بالسعادة. شعورا غريبا، أحببت نفسي و تحسست حقيبتي و أنا أقول بيقين “يا الهي، وجدت بيتا، كم أحبك يا استكهولم”. نعم، إنها المدينة التي ضمتني و عصرتني بين ذراعيها عندما خرجت من الحرب و دموع أمي على كتفي تنمو كل يوم مثل دمامل فضية. استكهولم أعطتني حبيبا و بيتا و أصدقاء و سلام و أمان واسع.

عندما عدت إلى استكهولم، كان هناك عملا كثيرا ينتظرني. البيت كان عبارة عن صناديق كرتونية فارغة مصفوفة فوق بعضها البعض و تنتظر الامتلاء. كنا قد عشنا سنة واحدة في ذلك البيت الصغير، لم أحبه لأنه كان بدون جيران، في وسط غابة، غارق في الهدوء و لم يكن ثمة ما يدعو لابهاجي. مضت سنة كاملة من الملل في شارع الريح ( اسم الشارع الواقع فيه البيت، ففي تلك الغابة شوارع، و للشوارع الغابية أسماء لها علاقة بالطبيعة).

لا أشعر بالحياة و الحرية عندما أعيش بعيدة عن محطة القطار. منذ قدومي لاستكهولم، لم أعش كل ذلك البعد عن قلب المدينة و ضجيجها، حتى عندما سافرت إلى روما و اسطنبول و مدن أخرى، دائما حجزت الغرف القريبة من محطات القطار و ليس الباص أو السيارات.

الآن أنا في البيت الجديد، لدي جيران و يمكنني سماع الحياة تمشي تحت البلكونة. أكتب كل هذا و أنا أسمع صوت القطار يصلني من المحطة القريبة من بيتي.. إنه ذلك الصوت المنزلق على السكة الحديدة و يبعث فيّ الحرية و الحب.