صالون الأقدام السعيدة

حجزت موعدا في صالون ‘الأقدام السعيدة’. ذلك هو روتيني كل نهاية شتاء، أنظف قلبي من عتمة الشتاء السويدي الطويل و آخذ قدماي إلى صالون خاص للتخلص من الجفاف و الجلد الميت الذي تسببه البرد و حذائي السميك. لا بد من بداية طرية لصيف لا تغيب شمسه.

خططت لموعد الصالون قبل أسبوع، فعملي الرائع يسمح لي بحرية التخطيط. غادرت شقتي الواقعة في الطابق الأخير، أحب أن أخبر أي شخص أنه لا يوجد طوابق فوق شقتي، حتى كتابة ذلك يجعلني سعيدة، فقط سطح مثلث لونه أسود من طراز الستينات. كلمة طراز تخدعني و تجعلني أشعر كأنني أعرف في العمارة و تاريخها، لكنني أعرف جيدا أنه عندما تم الانتهاء من بناء البناية التي أعيش فيها، كان أبي يعيش في بيت ذا سقف مليء بالثقوب و مصنوع من الزينكو. قبل سنتين كنت أعيش في قاع المدينة، البناية التي قطنتها كانت مبنية منذ منتصف العشرينات، وقتها كان جدي و جدتي يعيشان في بيت صغير جدا مدعم بالطين. البيوت تفصح عن قصص كثيرة، بعضها جميل رغم الفقر.

إنه يوم الأربعاء، الساعة الواحدة عند الظهيرة. الشمس ساطعة مثل تلك التي رأيتها في مغامرات نيلز. الناس ينتشرون بسرعة تحت الشمس، كل خيط من ضوء الشمس يحيك الحياة من جديد، ها هو بار هانكسن يعج بالناس، معظمهم أولئك المتقاعدين الذين يصرفون نصف راتبهم و وقتهم في نفس البار مع نفس الأصدقاء و مع نفس البيرة الرخيصة. هانكسن يشبه أي بار في استكهولم، ما أن تمر عنه و تلاحظ وجود كراسي في الخارج، تدرك بسرعة أن الصيف هنا، حتى و إن كان الجو باردا.

قبل أن أدخل الصالون، تأكدت من أنني وضعت جواربي الجديدة في حقيبتي، كانت هناك، جواربي المفضلة التي تعلن عن استعدادي للصيف. استقبلتني امرأة صينية تضع كمامة على وجهها، قالت ‘أنت كاتر’، قلت ‘نعم أنا كوثر’. قالت ‘الصالون تحت، هناك الدرج’. نظرت حولي لأعرف أين الدرج، لكن كان المكان محوط بجدران مغطاه بلوحات مرسوم عليها أقدام جميلة و بشعة. سألت المرأة ‘أين الدرج؟’، أشارت بيدها نحو قدم كبيرة مرسوم بجانبها قنينة حليب. اختفت المرأة الصينية و بلعني الدرج إلى الطابق الأرضي.

كانت امرأة شقراء جدا و سمينة تنتظرني عند نهاية الدرج، مايا-ليسا، قدمت نفسها بسرعة، و قالت ‘أهلا بك، الجو فوق رائع جدا، هل اعتنيت بقدماك من قبل؟’. قلت ‘نعم، ارتدت صالونا قريبا من شقتي السابقة’. ضحكت مايا-ليسا و قالت ‘حسنا، هل أنت هيبستر؟’. ضحكت مثل ضحكتها السخيفة و قلت ‘نعم، أتيت من هورنشتول’. (هورنشتول أحد الأحياء الراقية في استكهولم و يجذب الشبان الهيبستر). شهقت و قالت ‘هل حقا ولدت في ذلك الحي؟’. لم أفهم ما تعنيه، ربما صدقتني، لا يهم.

طلبت مني المرأة أن أخلع حذائي بينما انشغلت بتحضير الماء الدافىء و الملح، سمعتها تشهق من جديد، قالت ‘هل أحضرت معك جواربا غير مستعملة؟’. قلت ‘نعم..’. قاطعتني ‘ذلك يثبت أنك هبستر’. يا الهي ما علاقة ذلك بذلك؟؟ كنت على وشك مناقشتها، لكنها أمسكت بيدي و سحبتني نحو كرسي واسع، جلست بقليل من التوتر، جاءت و مدت يدها تحت الكرسي و بدأت تتحكم بعلوه إلى أن تدلت قدماي و لم تلمسا الأرض. أزاحت سطلا لونه وردي و نقعت قدماي في مزيج الماء الدافىء و الملح و بعض الوردات الصغيرات جدا.

كانت المرأة تحضر الأدوات الخاصة و تراقب قدماي باستمرار بينما كنت أراقبها أنا أيضا. خمنت من أي بلد جاءت، لكنتها كانت أجنبية، مألوفة و سمعتها من قبل، سألتها بفضول ‘من أين أنت؟’ أجابت ‘من آخر فنلندا’. فرحت لأنني أصبت التخمين. و من وقتها لم تتوقف مايا-ليسا عن الثرثرة.

كنت أتطلع إلى لحظة سكون و هدوء.. صالون الأقدام السعيدة يقبع تحت الأرض، بارد و فوضوي و تديره امرأة فنلندية ثرثارة.

فجأة سأتني ‘هل أبوك على قيد الحياة؟’. يا له من سؤال! قلت ‘نعم’. تابعت ‘هل يعيش في استكهولم؟’. قلت ‘لا، في فلسطين’. رمت آلة تقشير الجلد على الأرض ببلاهة و سألت ماذا يفعل هناك؟’. أجبت ‘هناك بيته و حياته منذ ولد’. التقطت الآلة و رشقتني بالأسئلة ‘ظننت أنك سويدية. كيف أتيت إلى السويد، متى، لماذا…؟’. لم أجب على كل الأسئلة، كنت متعبة من تكرارها. نصحني الطبيب بأن أقول للجميع أنني أتيت من الحرب و أسرد قصتي بالتفصيل كي أتخلص من الذكريات المؤلمة. لكنني لم أستطع سرد قصتي لمايا-ليسا. كانت هي الأخرى لديها قصة و قصص كثيرة. عدَلت من جلستها و هي تقول ‘كانت أسرتي فقيرة جد ا، عشنا الفقر و التراجيديا في الثلج و الحرب مع الاتحاد السوفييتي. انضم أبي إلى الجيش السويدي و حارب السوفييت بقوة و ولاء’. عدّلت من جلستها مرة أخرى، كانت تفعل ذلك كلما أرادت التحدث عن شيء محزن، تابعت ‘أنا صادقة جدا، لا أشتاق إلى أبي. عاد من الحرب و صار مدمن كحول و بعد سنة انتحر لأنه لم يستطع التخلص من ذكريات الحرب و القتال. كان يضربنا كثيرا… كرهته حتى الأسبوع الماضي. بعد انتحاره بأشهر قليلة، لحقته أمي و قتلت نفسها بالكحول. لا أعرف هل كان انتحارها اشتياقا لأبي القاسي أم ضياعا. ما رأيك يا كاتر؟.’. تلعثمت و قلت ‘لنكن متفائلين و نقول كان انتحارا من أجل الحب و الاشتياق’، و سألتها ‘لقد كرهت والدك حتى الأسبوع الماضي. هل بدأت تحبينه أم ماذا تقصدين؟’.

رفعت رأسها نحوي، و مسحت وجهها بيدها، لم تبالي بجلد قدمي الميت الذي تناثر على وجهها و هي تمسحه، تابعت حديثها و أجابتني ‘الأسبوع الماضي حلمت بأبي، كان مع جارنا القديم كالّي، ذلك الرجل الطويل الذي علمني السباحة، كان الاثنان يتبادلان النكات المسلية و يحصدان البطاطا… كان حقلا كبيرا و أخضرا. حاولت التحدث مع أبي، لكنه لم يسمعني، كان يضحك و يحصد البطاطا. شعرت بالسعادة عندما استيقظت من النوم، الآن أعرف أنه نسي ذكريات الحرب و لم يعد فقيرا، فالآن يملك حقلا و يبدو أنه بصحة جيدة’.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s