كانت الغرفة تعج بصرخات الجرحى و صياح أمهاتهم على تعاسة الحظ و وجعه.الأسِرَّة مُبعثرة في كل بقعة من الغرفة,والأقدام كثيرة..أحذية طَلت البلاط المتسخ ..
نظر إلى السرير الفارغ باشمئزاز,تساءل عمّن سيشغله,من؟هل سيكون مريضًا؟أم مصابا؟برصاصة أم شظية؟..تمنى لو كان جسد أوسع؛لَضَمّ أسِرّة المستشفى بعضها إلى بعض و شملها بجسده وحده كي يمتص دماء و آلام القادمين,ويجعل من سِعة جسدَهُ مستنقع الموجوعين..فقط هو يتوجع,يتقلّب,يئن..بينما الآخرين بريئين,يتمتعون بحياةٍ أعدل..خارج المستشفى و غرفها الأشبه بالمقابر..
شدّ طرف البطانية إلى فمه,وصار يعضها بمرارة..أحسّ الوجع يتكاثر في تلك المنطقة البعيدة عن متناول يديه.هناك في ظهره,تنخزه خلف قلبه..حَكَّ قلبه بجنون,كادت أظافره تمزق لحمه..صار يتقلّب أكثر..لم ينتبِه أحدٌ إليه,الأطباء كانوا في غرف الطوارئ..و في لحظةٍ انخمد الوجع,و اختفى تماما..أبعد البطانية عن فمه,كانت مبتلةً بلعابه اللزج..
تناهض..حاول النهوض..أسند ظهره على الوسادة,بعد أن تأكد من وضع جسده المقبول,صار يمسح العرق عن وجهه بأكمام كنزته الطرية.شمّ رائحتها تفوح من بين الخيوط..
الفتاة الخجولة التي التقاها في استديو التصوير قبل اجتياح المدينة.جلس إلى جانبها على المقعد الطويل لينتظر دَوْرَهُ..شعر برغبة في الثرثرة معها..و كان التحدث معها صعبا,قليلة الكلام..تنقّطه من فمها حرفا حرفا,حتى ظن أنها تعدّ كلماتها قبل أن تفرج عنها شفتيها..قال لها أنه سيتصوّر,للذكرى صورتين:صورة لكامل جسده,و صورة لوجهه فقط . بينما هِيَ ستتصوّر صورة واحدة للهويّة,كانت بعد الحاح شديد قد رضخت أخيرا لأن تجمّع أوراق عمل الهوية,فهي لا تريد هوية مكتوب في أوراقها مكان الميلاد”غزة”,تريد أن توثّق ميلادها و أصلها في قرية”حمامة”,القرية التي لَم ترَها أو تأكل من طابونها و شجرها..فقط حدثتها عنها جدتها..استعارتْ ذاكرة جدتها كملجأ تلوذ إليه حين الحنين يباغتها..
كانت تتكلم بلكنة مضمخة بالحزن..ثمة حزن مشترك بينهما:الميلادْ!.
آخر مرة التقا بها كانت قبل يوم من تفاقم مرض قلبه و اصابته برصاصة من رصاص الاحتلال..كان حالما مثل طفل أو مراهق..أعطاها صورة وجهه..وشوشَتْ في أذنه أن أجمل ما فيه عينيهِ الخضراويْن…ضحكَ و تمنى بصوتٍ عالٍ بالوقت الذي يجمعهما معا تحت سقفٍ واحد,في غرفة واحدة,إلى جانب بعضهما..كانت تنبض بالطفولة,تلوّن وجهها-وقتذاك- بألوان الخجل:أحمر,أبيض,تمتماتٍ غير مفهومة تنمّ عن فرح و انتشاء..
انزلق قليلا عن الوسادة,واستدار إلى جهة السرير الفارغ.عاوده الاشمئزاز,شكله الفارغ يُشعره بالقشعريرة,يُذكّره بصورة وجهه..”آه لو تراني,هل ستعرفني”,صرخ بصمت عميق,ليلة الاجتياح تشوّه وجهه من الشظايا المتطايرة عشوائيا مثل انهماء المطر بلا سبب..
كان بابُ الغرفة المرمي فيها مفتوحا على مصراعيه لعجلة القادمين من حمّالي نشّالات الجرحى..لَمح أحدهم يحمل بين ذراعيه”انسانا”ما,بانت تفاصيله الصغيرة حين دخل الغرفة..تهدّل شعرٌ أسود مخصّل بخطوطٍ حمراء صبغها الدم..رُمي الجسد الضئيل على السرير الفارغ,فيما ركض الرجل خارج الغرفة لينقل مصابا آخرا..تحركت اليدين بخمول..انفتحت العينين الواسعتين..شَهق”هذه أنتي؟!”.نظرتْ الفتاة الصغيرة إليه و سألته”مَنَ!”,قال مندهشا”رمزي..قاطعته باسمة”لولا عينيكَ الخضراوين لَمَ عرفتُكَ”..
تعرّفت إليهِ من جديد.خبّأتْ صورة وجهه تحت الوسادة,ثم قالت بصوت خجول تُأرجحه أنّات متقطعة:ها نحن في غرفة واحدة !.