الخروج دون ذكريات

تأكّد بحذر أن صاحب البيارة قد خرج بعدما صفق بابها الصدئ,و صدر أزيز خشن يُشي إلى الطمأنينة.حدّج بصره مرّة أخرى في عدة اتجاهات,زفر أنفاسه المحصورة بين حنجرته و رئتيه,فاندلق لعابه و أسرع إلى شجرة البرتقال التي حدّدها و خطط لافتراسها,اقتطف حبة كبيرة ملأت كفيه,نَشَق رائحتها,كم هي قريبة من رائحة أرضه..
وَرَث عن أبيه أشجار برتقال عمرها سنيًّا طويلة,بعمر الأجداد و أول غارسيها.كانت تُشكّل في عددها الكبير اسم “أرض وِلْيَمْ”,ذلك منذ أيام الانجليز قبل ال 48 !. “وِلْيَمْ” رجل أعمال بريطاني يملك ثروة طائلة,كان يشتري حقول و مزارع أهل القرية من الذين وصلوا إلى حاجة بيع أراضيهم للتستّر عن الفقر و الجوع أو لأسباب التغرّب..
كل من يشم رائحة برتقال تفوح من أي مكان في القرية ,بلا سؤال يعرف أن مبعثها “أرض وِلْيَمْ”,أرض أبيه الغزيرة الأشجار كالمطر..
“وِلْيَمْ”! هذا الاسم أصبح على ألسنة الناس وقتذاك كطعم حليب العصفور؛لصعوبة نيْله و شدة ما لَه من معنى مُهيب و سطوة ثراء.حظيَ والده بهذا الاسم أو بالأحرى “اللقب” و انتسبت الأرض للقبه الأشبه برتبة ترقية ضابط إلى جنرال !,حتى صارت “أرض وِلْيَمْ”..
كشّر عن أسنانه و كالوحش عضّ حبة البرتقال,انغرزت أسنانه في القشرة حتى فار السائل البرتقالي على وجهه مثل شظايا بلورية..امتزج عرقه اللاذع مع السائل الحلو..مع رائحته الداكنة..تكوّنت تلك الرائحة البعيدة:”لَم أنساكَ يا أبي”.قضى على البرتقالة بشراهة,و حين مدّ يده لاقتطاف أخرى تذكّرها..لا بُد و أن زوجه في هذه اللحظة تنسج آخر خيط في طاقيّته..”لن أخذلكِ,ستتذوّقين برتقال هذا الموسم..ستنقعين برتقالة في معدتكِ حتى موسم السنة القادمة”..”آه..لماذا كل هذه الأوجاع؟..قرحة في المعدة ! ..لا لا,إنها قرية..أرض..برتقالة في المعدة..كيف تسمح لنفسكَ أيها الرجل بالتوهّم؟..كيف تبتلع البرتقال و تدسّه في معدتك حتى يصل طافحا خارج فمك,أتظن أن معدتكَ ستحفظ الأرض و تصون الأشجار ..
و فجأة وجد الحبة متفتتة على الجدار المتآكل..ترمّل السائل البرتقالي جانحا نحو اللون البني الفاتح..ضرب بأطراف أصابعه جبينه,تذكّر أنه قذف البرتقالة على الجدار و تسبب بموتها..شَعر أنه يريد قتل الماضي..يقتص من ماضيه الأسود, ” ألا يكفيكَ يا بو شوكت قتل فرحة زوجتكَ..ألا؟!”..صرخ بصمت.نحّ صراخه في صدره نحيحا قاسيا..
في ال 48؛حين وطأت أقدام الجيش المحتل قريتهم,وبدأ الجنود ينتشرون هنا و هناك,أول ما أطلقوه من رصاصهم كان على مختار القرية,لم يلتقط أنفاسه و اضرج بدمائه أول شهيد..فاهتزت قلوب الأهالي و دبّ الخوف فيهم..سارعوا إلى دفن ثيابهم و فناجين المضافة و أدوات المطبخ..وغير ذلك.أما “بو شوكت” فقد دفن مثلهم أغراض بيته,و قبل مغادرة القرية مع الجيران و الآخرين ألح على زوجهِ أن تدفن مهرها و خاتمها الذهبي..زوجه التي مضى على زواجها منه أقل من أسبوع,رضخت لأوامره و دفنت مهرها كأنها تدفن فرح عمرها و حياتها..ثم غادروا القرية مطمئنين على ما دفنوه؛لأنهم غدا سيعودوا و يجدوا الجيش قد خرج منها بعدما أفرغ شهوته في النذير و التدمير ..
و لم يعودوا, و اندفن فرحها,مات و لم يبعث.”لن يبعث فرحكِ إلا العودة يا حبيبتي..و التنبيش على قبر مهركِ..آه يا حبيبتي سامحيني..
بكى أبو شوكت بحرقة..اغدودن و سقط على الأرض مثل سكران مهموم..دوّر جسده بصعوبة إلى ناحية الشجرة “الأم”, ترقّش وجهه بذرات الرمل الرطب..أكل رائحة التراب..الأرض..البرتقال..هذه أرضكَ يا رجل..أرضكَ,لا تخاف من الذي خرج قبل قليل,هو مجرد كائن متطفل ..”سأبيده”..ملعون سرق أرضي,احتلها..يمنعكَ من قطف برتقالة من شجرتكَ..
خرجت زوجته من هذه الأرض قبل خمسين سنة بلا فرح,بلا ذكريات..لم تعِشْ معه سوى أسبوع.كانت الحياة فيه بدائية التكوين..بجانبه تنام على الفراش الأرضي الرطب..تنام بعدما تتأكّد من كلامه أنه روى الشجرَ أكثر ماء استطاع جلبه من البئر..لَمْ تكن تلك الأيام القصيرة كافية لأن تَلِد ذكرياتْ.

Leave a comment