شانشيلا

وقفت تحت الطوابق الأربعة, هناك حيث لا يدرك المرء أنه و ببلاهة يراقب شبابيك بيته, و كأنه ينتظر رأس إله ما أن يطل منها. أخرجت من حقيبتي خارطة المدينة, تأكدت بأنني في المكان الصحيح, مشيت قليلا باتجاه العمارة, و توقفت لأتأكد مرة أخرى من رقم الشارع كما هو محدد على الخريطة.. و كي لا أضل العنوان مثلما حدث يوم أمس, فقد علّمت كل شيء: لون صندوق القمامة الأزرق, الشجرة التي يتدلى منها خيط بني سميك ينتهي بكرة صوف صغيرة, الحذاء الذي لا يتزحزح عن حافة بلكونة الطابق الثاني, الدكان الذي يمتلكه عراقي شاب, و صوت الموسيقى الذي لا يتوقف في الحي.  توجهت إلى البوابة و طلبت المصعد فورا, كان اسمه مكتوبا بجانب الأكرة, فتحت باب شقتي, هل يحق لي أن أدعي بأنها شقتي؟, لأسباب غريبة سوف أكره كل شيء و أتوقف عن ادعاءاتي المحتملة بخصوص الشقة و المدينة بأكملها..

خلعت حذائي و دسسته بقدمي تحت السرير, و كالعادة كانت الأغاني تنبعث بإصرار من الكمبيوتر, لم أغير ملابسي, ذهبت إلى المطبخ, كانت طاولة الطعام تختفي تحت أكداس من الورق, فواتير و مجلات, و الأكثر كانت بطاقات بريد بلغات لا أعرفها من أشخاص ربما أصدقاء حبيبي و ربما نساء كان يكاتبهن في فترات متقطعة من مراحل العمر و الجنون. صنعت لنفسي كأس شاي و وضعته في زاوية صغيرة من الطاولة أفرغتها لتكون لي, و كأنني بذلك أحدد ماهيتي أنا العاشقة و أزيح البطاقات الحميمية نحو الماضي و أتقدم بكأس الشاي للحاضر و أمضي إلى الخلود. كنت أفكر في أمور أهم من تلك الزاوية الصغيرة, بدون شك أننا نحب بعضنا بسعادة, و لكن ما الجدوى من حب يحدث في فوضى و قذارة؟.

كنت أراقب حيوان الشانشيلا النائم في قفصه, لماذا يحبه و يحترمه حبيبي لدرجة أنه غضب مني عندما لم أناديه باسمه, نظر إليّ بطرف عينيه و قال “هل يعجبك أن يناديك الناس بدون اسم؟”, في تلك اللحظة فكرت بأنه أحيانا من الجميل أن لا يكون لنا أسماء, و في نفس اللحظة فكرت بأنه ليس من المنطقي أن يحتج شخص فوضوي على تنكير حيوان يحبه!. الفوضى تعتني بالأخلاق من منظور حاد جدا. الإنسان الذكي هو الذي يستطيع العيش في فوضى دون الحاجة إلى تنظيمها. دائما كنت أبدي اعتراضي على طريقة حياته, أو بالأحرى على وضع الشقة المزري, يجب أن تذهب كل هذه الملابس إلى القمامة, ملابسه التي تنتفخ في الخزانة و تتدلى من أطراف الكنب في الصالون و ترتمي كالجثث على طاولة المكواة.. مرة و أنا أجلي الصحون, جاء إلي و صاح بدهشة “يا الهي لقد جليت الكأس المزخرف؟”, قلت “أجل و ما الغريب في ذلك”, و تابعت الجلي, قال “استخدمت هذا الكأس منذ عشر سنين, و من يومها لم أنظفه و لم أستعمله”, كان يقول ذلك دون أن يظهر عليه علامة حزن أو امتنان, استمر في التحدث عن الكأس حتى بعد أن أخرج رأسه من النافذة ليدخن سيجارته كي لا يمتلئ المطبخ برائحة الدخان, سمعته يقول بأنني لتو نظفت قطرة نبيذ اختمرت في قاع الكاس عشر سنين. فيما بعد سألته بجديه “متى بدأت تمارس الفوضى”, قال بتردد مراعيا شعوري القبيح تجاه ما أكتشفه عنه ” احد الفلاسفة الألمان قال ان الانسان اذا استمر في ممارسة الفوضى لمدة سنتين, فانه سيعيش بقية حياته في فوضى مستمرة”. لم يعجبني ما قاله, و جلست على الكرسي محتدمة, جلس قبالتي و هو يرمقني بنظراته و يقول بثقة “سيكون كل شيء على ما يرام”.

– لنتخلص من المجلات و الكتب و الملابس الزائدة

– أرجوك, إنها أشياء مهمة بالنسبة إليّ, أحتاج إلى فترة طويلة كي أتخلى عنها

اتصل علي قبل قليل ليخبرني أنه لن يتناول العشاء معي, سوف يبات الليلة في الاستديو. لم أخبركم أن حبيبي يعمل في مجال اللغويات و الصوتيات, يقضي معظم وقته تحت الأرض, هناك حيث بُني الاستديو و صُمم بشكل دقيق ليتلاءم و طبيعة العمل المهم الذي يشتغل عليه مجموعة لغويون, زرت المكان قبل أيام و دهشت بكم الهدوء الذي تصنعه الأقمشة الداكنة, نعم قلت تصنعه, لأن المكان تمشي فوقه سيارات و بالضبط فوق غرفة التسجيل مرسوم خط المشاة, و بالتالي تتضاعف الضجة فوق مكان تأكله العتمة و السكون, و لا بد من ابتكار طريقة تمتص الضوضاء و تصنع الصمت. مهمة حبيبي هي تحويل الكتب المقروءة إلى اسطوانات سمعية للأشخاص الذين يعانون من مرض “الديسارثريا”. الليلة سأتناول العشاء وحيدة فيما هو يسجل بصوته الرائع الكتب للمرضى..

كانت الساعة تقارب السابعة مساء, قررت أن أحسم الأمر و بدأت أدون على ورقة أخذتها من على طاولة الطعام ما سأقوم به في غياب حبيبي. تخلصت من الأغاني التي تستفزني و أغلقت كمبيوتره المجنون, ثم رحت ألملم الكتب المتناثرة على أرضية الصالون, و ضعتها في صندوق كرتوني كبير, كانت الكتب أكثر بكثير مما توقعت, إنها تحتاج إلى خمسة صناديق كبيرة, جمعت الكتب حسب أحجامها و صففتها قرب المكتبة, أخذت مساحة لا بأس بها.. انتقلت إلى الملابس, كومتها باهمال في أكياس و رميتها خلف الكنب, ثم أخذت المكنسة الكهربائية و نظفت الشقة.. لقد دأبت أن أرتب الشقة بقدر كبير حتى عودته من الاستديو, و مع ذلك لم أنته من شيء, فأنا قد بدأت خلال ساعات قصيرة في التخلص من فوضى تجاوز عمرها عشر سنين. جلست على حافة سريري, تأملت ما قمت به, الشقة مخيفة, يا لها من كارثة أن أعيش في مثل هذه الشقة و بوجود حيوان بدأت تنشأ بيني و بينه عداوة لا معنى لها. مشيت على رؤوس أصابعي بين حشرات بحجم أظافري و ذهب بلا احساس لأستحم, تركت جسدي تحت الماء الفاتر, كنت أغتسل من الفوضى, و أغتسل من حبيبي, و أغتسل من حيوانه البذيء, ها هو القش متناثر في المغسلة أيضا, ما الذي أتى به هنا؟ هل كان طليقا قبل قدومي يعيش بمساواة و حرية جنبا إلى جنب مع حبيبي؟ هل حبسه في ذلك القفص حرصا عليّ؟ لا أعتقد أنني أشكل حرجا و أهمية لدى حبيبي بالعيش مع شاتشيلا, إنما السبب كان في أن الحيوان أصبح عجوزا و لا يتحرك إلا عندما يأكل!.

في الواقع انتقلت من مدينة إلى أخرى, لأجل العيش مع الرجل الذي أحب, لم أنتقل لأتبنى حياته, و أقضي أيامي الجميلة معه أتذمر و أقنعه بالبحث عن شقة جديدة. كانت علاقتنا قائمة على الفهم العميق للوحدة, كلانا يتفق على أنها مصدر بؤس و عراك لا يجدي مع الذات, على الرغم من ذلك فكلانا عاش – بشكل و بآخر-  وحيدا في الماضي, كان له حبيباته, أو نزيلاته, يستخدمهن لدفع الوحدة عنه, و لسبب غامض يرحلن الواحدة تلو الأخرى.. لا ليس غامضا, اكتشفت أن الكتب و الأفلام و القش و الكمبيوتر و الملابس هي السبب في وحدته. أما أنا فكانت الحاجة إليه هي سبب وحدتي. في الأيام الأخيرة كنت أبكي كثيرا عندما أستيقظ و أجده إلى جانبي, كان يلح عليّ أن أقول شيئا, على الأقل قولي”لا شيء”, و لكنني في النهاية توقفت عن البكاء. لاحظت أن دموعي التي تسيل على كتفه كل ليلة تتحول إلى دمامل تشبه الصدف, أصبحت كتفاه صدفتان كبيرتان. كان يريدني امرأة عادية, غير مرتبة, لأنه ببساطة لا يكترث بالترتيب, و تجاربه مدته بفرضيات و نتائج لا نقبل بها نحن الذين نتغير بخوف و ببطء.

في الصباح نظفت طاولة الطعام بحذر, وضعت المجلات و الفواتير في صندوق, بينما وضعت بعناية بطاقات البريد في حقيبة خاصة.

إنني أراه الآن من نافذة المطبخ, عائد من الاستديو. لا أعلم إن كان سيحزن عندما يرى شانشيلا نائما بين القش إلى الأبد؟.. خلع سترته و ضمني بقوة, كانت كتفاه الصدفيتان تلمعان. كان يبدو عليه الإرهاق, لم ينتبه إلى التغييرات التي حدثت, ذهب مباشرة إلى السرير و قال بصدق ” سأنام قليلا و بعدها سوف نبدأ بتنظيف الشقة”.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s