الملابس أيضا شيء يُذكَر

مرت فترة عملت بها في انتاج الأدوية البيولوجية و كانت تلك من أصعب فترات حياتي العميلة، كانت مليئة بضغط العمل و التوتر و تغيير جدول العمل باستمرار. كنت أستيقظ الساعة الرابعة فجرا، الثلج يغطي الشوارع، العتمة و البرد السويدي القارص يأكلان الحياة الجميلة. أطبطب على كتفي بيدي و أمشي نحو محطة القطار، و هناك أجد الركاب فقط من الطبقة العاملة باجتهاد و حب، عمال مصانع السيارات و ممرضات و سائقي باصات… كنت في أشد الاحباط و التعب لأنني تعودت على الحياة الناعمة، كنت أعمل في تسجيل الكتب الصوتية للمكتبات و الجامعات، الترجمة من مكتبي في البيت، تحضير دروس اللغة و أنا في المطبخ و الكعكة اللذيذة في الفرن بينما يحضر صديقي الشاي لي. كل ذلك الهدوء في أيامي اختفى حين تحوّلت لصانعة أدوية!

قضيت يوما تلو الآخر في غرف تتمتع بنظافة عالية جدا، أجهزة تنقية الهواء في كل زاوية، تجد عند كل بوابة محطات تغيير الكفات و المراييل البلاستيكية سريعة التغيير و التي تستخدم فقط لمرة واحدة، خزانات تتكدس فيها ملابس معقمة و جرابات بلون وري يرتديها الرجال و النساء. و الأهم من ذلك، نظافة و تعقييم العاملين في انتاج الأدوية. كيف يتم التأكد من عدم وجود بكتيريا أو أي ملوث؟ كنا نغير ملابسنا إلى ملابس معقمة في غرف خاصة، و قبل دخول المختبرات أو أماكن الإنتاج، فاننا نلبس ملابس أخرى (أوفرهول) و كمامات و طاقيات و نظارات و كفات و أحذية… أي كنا نختفي خلف ملابس معقمة.

أكتب كل هذا و أنا على وشك الدخول في تجربة عمل جديدة، هذه المرة ليست في انتاج الأدوية و التعامل مع البلازما البشرية. و إنما في تحضير محاليل خاصة لجهاز تصنعه الشركة و الغرض من العملية هو اكتشاف بعض الأمراض. المهم، حتى هذا العمل فيه ضغط و جداول متغيرة… و حتى الاختفاء خلف ملابس معقمة. لماذا أكرر قول ذلك؟

لأنكم رأيتم في بعض الصور أو الفيديوهات، ممرضات أو أطباء يقومون بعملهم تحت خطر الوباء. هل لاحظتم ملابسهم؟ قد يبدو الأمر سخيفا. لكن صدقوني، يوجد تفاصيل منسية في كونهم ممرضون و أطباء. تلك الملابس تحولنا إلى آلات أو أجسام محبطة. تخيلوا تمضية يوم كامل ببلوزة و بنطال و فوقهم أوفرهول و مريول و حذاء خاص و كمامة و نظارة و كفات… هل نسيت شيئا؟

أثناء عملي في انتاج الأدوية البيولوجية، كان الكثيرون يتذمرون من الملابس، و مع ذلك كان سلامة المرضى الذين سيحصلون على الأدوية، أهم من تعب أجسادنا من الاختفاء خلف طبقات من الملابس.

هذه أحد يومياتي… حتما يمر بها الكثير من غير الأطباء و الممرضات. بل كل العمال المجتهدون حول العالم، الذين يعملون لأجل الحفاظ على صحة البشر و الحيوان.

صورة لممرضات العناية المركزة في مالطا نشرتها قبل يومين الممرضة ديان فاينزا

يوميات الوباء 1

ماذا نفعل في الحجر الصحي؟
أجلس مثل كيس بطاطا على الصوفا و أراقب الطيور العائدة من هجرتها الموسمية إلى السويد. أشعر بذات الحزن الذي رافق صديقتي إيفا عندما كانت طفلة و كانت تصاب بالقلق الشديد نحو تلك الطيور التي حان موعد هجرتها و ستمر بمصاعب كثيرة و ربما لن تجد طعاما خلال الطيران. ظنت إيفا الطفلة أن الطيور ستموت جوعا في السماء و ستقع على الغيوم دون أن يدري بها أحد.
عند كل مساء يعلو صوت الطيور في الحي و يكثر تحليقها حول البيوت، التفسير الوحيد هو البحيرة القريبة. تجتمع الطيور و تصنع سربا جميلا، تبدو و كأنها في نقاش خاص بينها، ثم تطير بعيدا إلى أعشاشها.
لم أخطط لروتين جديد، فما زلت أمارس حياتي بشكل عادي، و لكن بمشاعر مختلفة تماما، مختلفة عن الطمأنينة التي تعرفت عليها فقط في السويد. مشاعري أصبحت مماثلة تماما لتلك التي اجتاحتني في الحروب الثلاث التي عشتها، انها مشاعر الشابة الضائعة في مدينة محاصرة و مليئة بالصراعات السياسية.
يوم أمس، خرجت مع أختي إلى المدينة القديمة في استكهولم، كانت الشوارع فارغة جدا، لم يكن هناك ناس من فرنسا و ايطاليا و هولندا و كل العالم… كان هناك بارا مفتوحا و عند البوابة وضعوا رجلا خشبيا برأس حمار و يحمل قنينة نبيذ. لم يكن هناك أحد ليسرق النبيذ الثمين. حتى الغجر تركوا الشوارع.
لست في حجر صحي حتى الآن، الكثيرون قرروا فعل ذلك من تلقاء أنفسهم، المسؤولية تعتري أغلب السويديين، لذلك لم يكن هناك حاجة فعلية لتخرج الشرطة بأمر منع التجول. أتبع تعليمات الوقاية بحرص و عندما أكون في القطار، أرى بوضوح خوف الركاب من بعضهم البعض. يوم بعد يوم، ينتشر الخوف بشكل أكبر، خوف التنفس بصوت عال، خوف تعرق الوجه، خوف قول ‘لو سمحت..’، لأن في كل ذلك خطر لنقل الفايروس… نعم، ان قلت للشخص الواقف إلى جانب باب القطار ‘لو سمحت.. ابتعد قليلا لأتمكن من الخروج’. سينتقل الفايروس من أول حرف.
أحاول التخلص من مشاعر الحرب التي جلبها الفايروس، أتابع صديقتي أحلام و هي تطبخ في شقتها في رام الله، و تفتح اللابتوب على أغاني و أفلام وديعة.. تسمي أحلام ذلك بالعزلة بينما تحضر طنجرة المقلوبة. تغريني بعزلتها، فأغادر الصوفا و
أذهب لأسخن كوب شاي الراوند مع الفانيلا.