لعبة صديقي الغريب

زرت صديق قديم، لم أره منذ أربع سنوات. بعد تناول العشاء، قال ‘أنت لا تعرفين أنك غاضبة و ناقمة على العالم’. قلت ‘لا، هل أنا حقا كذلك؟’.. قال ‘نعم، و لكنك تعيشين حالة انكار. أعرف أن أهلك غارقون في الفقر و التشرد و الخوف.. أعرف أن حارتكم لا يعيش فيها إلا الأشباح’.

كان صديقي يقرأني و يقولني.. أخذني إلى غرفة نومه، فتح خزانة ثيابه و أخرج مسدسا متوسط الحجم. تجمدت مكاني و كنت متأكدة أن شيئا ما غريبا سيحدث، ربما يظن صديقي أنني غاضبة حدّ تمني الموت و لذلك سوف يساعدني و يقتلني. فجأة رمى المسدس علي، و ضحك بصوت عال و هو يقول ‘لماذا أنت خائفة؟ لقد عشت حروبا و تم تجربة قنابل و أسلحة جديدة عليكم، من المفترض أن لا تخافي من مسدس يطلق حبيبات حديد صغيرة جدا’.

التقطت المسدس عن الأرض و سألته عن ماذا يخطط؟ فقد كنت أجهل تماما ماذا يعني و ماذا سيفعل. قال ‘انظري خلف سريري، هل ترين فتحات الرصاص في الجدار؟’. بالفعل كانت هناك عشرات الفتحات الدقيقة . هل هذه لعبة صديقي الغريب؟. سحبني من يدي و وقف خلفي و صار يحرك ذراعي و يدي و أصابعي و هو يقول ‘نعم هكذا، و الآن اضغطي على الزر’. ضغطت على الزر فانطلقت رصاصة صغيرة جدا و اختفت في الجدار. قفز صديقي أمامي و هو يصفق و يصيح ‘برافو.. الآن سأعبئ المسدس و ستفرغين غضبك في هذا الجدار’. 

البيوت كأبناء

في وقت الحروب، لم تكن البيوت مجرد حجارة أو مأوى، بل أبناء يكبرون و يعانون مع ساكنيهم. في وارسو ودرسدن وستالينغراد، كان النازحون يغامرون بالعودة بين أنقاض المدينة، يطرقون أبوابًا خالية، يبحثون عن آثار الحياة التي رحلت. يلمسون الجدران المحطمة، كأنهم يحتضنون ذاكرتهم الضائعة، ويسمعون صدى خطواتهم في صمتٍ لا يرحم.

اليوم، في غزة، تتكرر القصة، لكن في مدينة واحدة. النزوح ليس مجرد تنفيذ أوامر الإخلاء أو هروب من القصف، بل رحلة بين الموت والحياة، بين الدمار والذكريات. يصر الناس على العودة إلى بيوتهم، كما لو كانت أبناؤهم، ليتأكدوا من أنها لا تزال واقفة، ينقّبون بين الركام عن قطعة من الأمان، عن ظل من الماضي الذي لم يرحل بعد. كل زاوية، كل باب مهدم، يحمل صدى الصراخ نفسه الذي دوّى في أوروبا قبل عقود، لكن الفرق أن هذا كله يحدث في مكان واحد، مضغوط، محاصر، كأن الحرب العالمية قد انكمشت لتعيش في قلب مدينة واحدة.

شعراء يكملون الجحيم

من كل بيت دمرته الطائرات
خرج شاعر أو قاص
يكتب عن الجدران و المطبخ
و كنبة غرفة الضيوف
و قوّارة النعناع
و تنكة الزيت..
أخاف أن أكتب عن ذكرياتي
في معسكر الشاطئ
فيأتي شاعر مبتور
و يصحح ما سقط من ذاكرتي
لا أريد أن أنسى مدرسة الست سورة
و لا أريد أن تضيع مني الأزقة
و خيوط المياه التي كانت تجري في شقوق بيوت الزينكو
ماذا تكتبون يا أهل غزة؟
كتابتكم
أصبحت جحيما
يكمل الموت بقصص جديدة.

ذكريات غزّية قبل الكارثة

قبل أسابيع قليلة من المأساة الفلسطينية الكبرى في غزة، استأجرتُ مع صديقتي سيارة “فيات” صغيرة بالكاد تتسع لنا، و انطلقنا نتجول في ضواحي روما الساحرة. كنت أشعر بكل نفس من هوائها وكأنني أستوعب سرّها الصغير، في عالم مدهش مليء بالحياة و التفاصيل الجميلة.

لم يخطر ببالي آنذاك ما يخبئه الغيب. دخلنا بلا تخطيط دير القديسة مريم في بلدة غروتافِرّاتا، وهناك تساءلنا: لماذا كان كل من يمرّ بنا يرمقنا بنظرات غريبة ثم يمضي؟ كنت متأكدة أنني لست المرأة الوحيدة الحامل في تلك القرية، فما السبب إذن؟ كادت فكرة أن الأمر يخصني شخصيًا أن تتسلل إلى ذهني، حتى مررنا عن رجل مع زوجته جالسين في فناء الدير، همس الرجل بصوت واضح : «يا للجمال». عندها فقط أدركنا السبب: دخولنا بملابس قصيرة كان ممنوعًا، ولهذا كانت تلك النظرات المحيطة بنا. شعرنا حينها بمزيج من الخجل والدهشة، وابتسمت في صمت و غادرنا الدير فورا.

اليوم، وأنا أستعيد هذه الذكرى، أشعر أنها كانت آخر لحظات عادية بعيدة عن أخبار غزة، مدينتي الأم التي كانت تنعم نوعا ما بالطمأنينة و فيها بشر و بيوت و شوارع و مدارس و أسواق و مستشفيات و أشجار..

لكن بعد السابع من أكتوبر تغير كل شيء. صار عقلي يربط بشكل تلقائي بين لحظاتي الشخصية والكارثة الجماعية. عندما أنجبت طفلي، كان أهلي ينامون ليلتهم الأولى في خيمة برفح. عندما التقيت صديقة قديمة على العشاء، كان مسجد قرب بيتنا يُقصف. وعندما قرأت “معرض الجثث” لحسن بلاسم، كانت الهدنة تنتهي لتعود الحرب من جديد.

و كأن ذلك قدر الغزي الذي عاش الحرب أو الفقدان أو التهجير. فالذاكرة لا تفصل بين حياتنا الخاصة وما يجري حولنا. الذكريات الشخصية تصبح خيوطًا تتشابك مع الأحداث الكبرى، كأنها جزء منها.

لا أحب أن تُعلَّق ذكرياتي، السعيدة منها والتعيسة، على جدار الإبادة. لكن لا مهرب من مدينتي الأم، تلك التي تُقتَل يوميًا. لا مهرب منك يا غزة.

قلق جيراني في حديقة الملك

الحي الذي أسكنه به امتيازات رفيعة نوعا ما، كونه يقع بجانب حديقة الملك، و بيوته جديدة و مصممة على طراز معماري حديث، حدائق مخصصة للأطفال بحسب اختلاف أعمارهم و حدائق أخرى للكلاب، أكثر من خمسمائة نبتة متنوعة و مزروعة في كل أنحاء الحي.. الناس هنا مهتمون جدا بالبيئة و تدوير النفايات، بحيث يوجد في كل مطبخ في البيوت آلة مدمجة في حوض الجلي في المطبخ تقوم بطحن بقايا الطعام و ارسالها إلى مواسير خاصة تنتهي إلى مكان ما لاستخدامها كسماد للنباتات. كل شيء هنا يبدو مثالياً… حتى قررت البلدية تقليص عدد الحافلات، بحجة أن الحي موالٍ للدراجات الهوائية والصديق للبيئة.
ثار الناس و خرجوا للاعتراض على القرار، كل يوم في صباحات الشتاء القارص، خرجت مجموعات تحتج عند مواقف الباصات، استمرت الاحتجاجات لأشهر دون جدوى حتى جاء الربيع و صارت تأتي حافلتان فقط إلى حينا الوديع..
ومع حلول الصيف، وجدت وجوهًا جديدة تطل عليّ في كل زاوية: صور انتخابية لإيبا بوش، نائبة رئيس الوزراء. أينما التفتّ، كان وجهها يراقبني بخبث ماكر. لماذا يروجون لها في هذا الحي اللطيف؟ كنت أطمئن قليلًا حين أرى علم فلسطين لا يزال ملصقًا على شباك أحد الجيران، الغريب الذي لا أعرفه
فيما بعد، نشرت عجوز على صفحة الحي بوست غاضب لأن أحدا ما ألصق لوحة مكتوب عليها ‘أوقفوا الإبادة في غزة، اسرائيل مجرمة’. ادعت العجوز بأن الملصق لا يليق بحيّنا الذي يسكنه الكثير من الأطفال و الكلاب، و أن ذلك الملصق على صندوق الكهرباء العام هو اعتداء على الملكية العام. في اليوم التالي أرسلت البلدية عاملا قام بازالة الملصق.. و ردا على ذلك قام أحد ما برسم شوارب نازية على كل صور إبا بوش.
في مايو، جاءت الصدمة الكبرى: قامت البلدية بافتتاح بيت ايواء للمدمنين على المخدرات في حيّنا. طار عقل الجيران الذين معظمهم من الطبقة الثرية، الثرية، شعورهم بالكارثة كان أقوى من أي شيء: أشد جرماً من تقليص الحافلات، أشد وقعًا من ملصق الإبادة، أشد استفزازًا من الشوارب النازية.. يوميا، تتوالى المنشورات على صفحة الحي، تندد بفتح بيت الايواء في مثل هذا الحي الهادئ. حتى أن الناس جلبوا الصحافة و التلفاز و ما زالوا يرسلون تقاريرا من أجل اغلاق المأوى. مرة ينشرون صورا لابر ملقاة في الشارع، و مرة يكتبون ‘صرنا نمنع أطفالنا من الخروج للعب’ و مرة يرسلون احصائية عن نسبة فقدان الأمان في الحي..
في صخب الحي وادّعاءاته الكبرى، أفكر بغزّة، مدينتي الأم، بينما أعيش هنا في حيٍّ مشغول بمشاكله الفارغة التي لا تقتل حتى نملة..