أولا؛ البحيرة القريبة من الشقة لا تبشر بالخير, لأنني دائما أرى مقصات أيدي السلطعونات تخرج من تحت الماء و كأنها تتوعّد بقطع رأس العمارة التي نسكن فيها.. ثانيا؛ النوارس الكثيرة التي نسمع صوتها وقت الغروب سمعتها البارحة تتحارب على شجرة جارتنا الاسبانية, ثم سمعت حوارا عنيفا بين جارتنا و زوجها بسبب النوارس..
لقد ساءت بعض الأحوال بعد أن اشتريت السلطعون و قررت أن تطبخه أمامي, حتى أتعوّد على الخوف و الشجاعة, و حتى آكل الكائنات التي تخيفني. يا للسخافة, لقد حوّلت المطبخ إلى مكان يتدبّر أمره ذلك السلطعون المرعب.. أتجاهل رائحة البحر المنبعثة من الصحون, أعض مقص السلطعون و أقطع رأس العالم في فمي..
إنها المرة الخامسة التي أطبخ فيها, حسنا, لأكن صريحة و صادقة, كنت أجرب الطبخ, تحديدا طبخ الأرز.. تعلمت السنة الماضية أن أصنع الكروسان و السينابون و المعجنات بأنواعها, مع ذلك فقد فشلت في صنع فطيرة التفاح, كانت سنة مليئة بالتجارب الشهية, و حصل أن سافرت إلى السويد, ففكرت بأنه سوف يكون من الرائع أن أطبخ لأصدقائي بعضا مما تعلّمته. هناك, في بيت توفا, نسيت كل ما تعلّمته, لم أصنع لها شيئا, ذهبتُ معها لنتسوق البروكلي و عجينة فرنسية لا أذكر اسمها.. في المساء بدأت أشاهد توفا و هي تطبخ بطريقة المرأة الوحيدة و الذكية التي تعيش متعتها في مدينة علمية مثل لوند, حملت صحني و جلست قرب المكتبة الصغيرة الممتدة بجانب الباب, فيما توفا تنظر إلى متحمسة لرأيي في الطبق الفرنسي, هززت رأسي ببلاهة و قلت “لذيذ..”, كنت أحمل تجاهها غيرة امرأة صغيرة من جارتها الخبيرة ستستمر لأيام!.
صاعدت جهودي في الطبخ و شرعت في قراءة الكتاب الأمريكي “متعة الطبخ”, و انتقلت لقراءة الكتاب الايطالي “الملعقة الفضية”, ثم تطور الشغف بي و شاهدت فيلم جولي و جوليا الذي يصور حياة امرأتان تثبتان قوتهما و هويتهما من خلال الطبخ, كنت قبل ذلك قد قرأت رواية لورا اسكابيل “كما الماء للشوكولاته”, حتى انغمست في المأكولات أكثر فأكثر, و تحولت من كاتبة إلى طباخة, نسيت القصص و الشعر. رحت أتبع الروائح المدوخة التي تنتشر بشكل جنوني في شوارع ستوكهولم, جربّت معظم المأكولات, و كنت لأضيع لولا صديقي السويدي, و هو طباخ ذو خبرة واسعة, كان يرافقني إلى المطاعم و يوضح لي مكونات هذا الطبق و ذاك. مرة أخفى لي صديقي مفاجأة و أخذني إلى مطعم في المدينة القديمة, جلست إلى الطاولة و لكن للأسف الروائح أفسدت مفاجأة الصديق السويدي, كانت رائحة المسخن و زيت الزيتون تقولان بصوت عال “نحن مأكولات فلسطينية”, لم أشأ أن أخذل صديقي و أبديت سعادتي و دهشتي في الأطباق الفلسطينية التي احتلت طاولتنا!. حتى الطعام يعرّف البلدان و يمنحنا هوية و شخصية خاصة, و يضفي إلى الأماكن و الأشياء رموزا ذات دلالات. فمثلا, بالنسبة إليّ, منذ أن قرأت قصيدة “إلى أمي” لمحمود درويش, أصبحت القهوة رمزا إلى الحنين إلى الأم و الوطن, أما الجبن و النبيذ فيقولان على لسان فتاة بمريول أنيق “أنا فرنسية”, بينما تأخذنا البطاطا المسلوقة إلى المطبخ السويدي الذي لا يخلو منها و السوشي إلى اليابان.
الآن أطبخ الأرز و أحاول أن أتذكر عبارة جميلة للكاتبة الأمريكية لورين كولوين, تقول في كتابها “كاتبة في المطبخ”, “وحيدة في المطبخ, لا شيء سوى حبة باذنجان”. و أنا أيضا وحيدة في المطبخ, و لكن يوجد كل شيء, إلا أنني لم أنجح في صنع طبق الأرز.. المقادير دقيقة, يجب أن أترك هذه المهمة لأمي, فالأمهات دائما مرجع بناتهن في الطبخ الجيد. سوف أعود إلى غرفتي و أكتب قصة بدلا من ذلك.
لا بأس في أن أكون كاتبة و صانعة معجنات في نفس الوقت. أتخيل كيف كانت اميلي ديكنسون شاعرة و خبازة أيضا, تتفنن في صنع الخبز لعائلتها منذ أن أوكلوها مهمة تدبير المنزل, زد على ذلك أنها فازت بجائزة أمهرست للرعاة عام 1856.. يا إلهي, كيف لصاحبة الشِّعر البائس أن تنتج خبزا بكل تلك السعادة!.
مضى شهر على ذهابي و ايابي إلى مزرعة الحيوانات, أذهب فقط لأمرض, ولا شيء غير ذلك!!
لا أقصد طبعا مزرعة الحيوانات التي رواها جورج أوريل, انها مزرعة بشرية مقرفة و مرعبة و معتمة إلى أبعد حد..
في اليوم الأول دخلت المزرعة متفائلة, قلت في نفسي سوف أعلم الحيوانات كتابة القصص الابداعية و قراءة الشعر و التمرد على القوانين, و لكن سرعان ما تحول هدفي إلى آخر عدواني و هو التخلص من الجميع و حرق الكتب الموجودة
يا الهي سامحني, انها ليست مدرسة, انها مزرعة حيوانات, يأتي الطلاب اليها مثل قطيع أغنام, أو مثل حمار يحمل أسفارا و لا يفقه شيئا..
في ذلك المكان الفاشل المدعو “مدرسة”, لقد سقطت يا مالكوم نولز, و لقد جرجروك يا سكنر.. و أنتِ أيتها النظريات التعيسة لقد داس عليك الأساتذة و الطلاب و المدير, جميعهم داسوا على رقبتك..
قلت غدا سوف أبتكر نظرية جديدة أطبقها على هؤلاء الطلاب الذين يأتون إلى المدرسة بغير رغبة منهم, يدخلون البوابة الكبيرة بأقدام متخاذلة و نوايا سيئة جدا تجاه المنهاج الدراسي و الأساتذة.. إلا أنني لم أنجح حتى الآن في التعامل مع طلابي. أعطاني الأستاذ المشرف بضعة نصائح في كيفية التعامل مع الطلاب, جميع المعلمات و حتى المديرة كانت نصائحهن قوية جدا و تميل إلى العنف و استعمال الوسائل الحرجة لتدريس الطلاب: الاذلال, الشتم, تمزيق دفاتر المشاكسين, أن أعقد حواجبي عند دخولي الفصل و عند خروجي منه, أن أمسك عصا لارهاب الطلاب..
و بالفعل طبقت نظرية العنف مع طلابي, و لكن فشلت مرة أخرى..
ذهبت أبحث عن نظريات جديدة لا أعرفهافي الكتب و على الانترنت, و تفاجأت بأن جميعها تحتوي على لمسة عنف.. يا للغباء, أين أنت يا جون واطسون؟
سلوكيات الطلاب لا تدل على اقدامهم الى التعلم أو احترام المعلم.. أسوأ ما في الطلاب أن روحهم العلمية شبه ميتة. صدمت حين وجدت أن معظم الطلاب لا يعرفون القراءة مع أنه في مثل مستواهم الدراسي ( ما بين الصف الثامن إلى نهاية المرحلة الثانوية) يجب أن يكونوا قادرين على القراءة و الكتابة أيضا! هل يرجع السبب في ذلك الى الطالب نفسه أم الى الأستاذ؟
حسنا, مزرعة الحيوانات لا تتوقف عند الطلاب فقط, بل تمتد إلى المعلمون..
في غرفة المعلمات جلست, ما هذا الهراء؟ كل أحاديثهن تدور حول الطبخ و الغسيل و الزواج.. كنت أشعر بأنني سوف أختنق حتى الموت إن بقيت في ذلك المكان المتعفن.. اختلطت الفيزياء بالفاصولياء و الأحياء بالزواج و السعي الى الانجاب.. لم تكن أحاديث المعلمات منطقية أبدا, و لم يكن ثمة حديث يتناسب مع مستواهن الثقافي في مكان ينشر العلم!
تمنيت أن ألتقي بمعلمة تقرأ روايات لتيلير أو لوركا أو نيتشة أو حتى محمود درويش!.. إنهن لا يستمعن الى الموسيقى و لا إلى الاغاني..
المعلمات لسن مثقفات, مهمتهن الوحيدة هي تدريس الكتب للطلاب و العودة الى البيت لاستكمال مهام حياة المرأة التقليدية من طبخ و جلي و تربية الابناء..
بالمناسبة, مهنة التدريس تفسد حياة الشاعر و الكاتب، سيمضي أوقاته يتحدث عن مكائد أصدقائه الأغبياء و الثرثرة عن الطعام و انجاب الأطفال.. أسوأ مكان ممكن الذهاب إليه يوميا هو الذي توجد فيه مقاعد للتعليم و الانتحار !
هل هنالك معلمون, دكاترة و أساتذة, و مربون, سوف يقفون إلى صفي إذا ما خرجنا مسيرة ضد المدارس ( و بالطبع الجامعات, و لكن لهذا حديث آخر) من أجل المطالبة بتحسين الوضع التعليمي في بلادنا؟.. مثلا لماذا لا يتم وضع كتب موسيقية و ادخالها ضمن المنهاج الدراسي المقرر؟.
أن تشجع الحكومة بناء المدارس التي تهتم بتدريب المتعلمين على الحرف اليدوية, و بذلك سوف يقل عدد الطلاب في المدارس و بالتالي يخف العبء على المعلمين في عملية التعليم..
أن يتم استبدال النشيد الوطني بأغاني لفيروز أو موسيقى باخ أو أغاني زياد رحباني في حالة كان الطلاب و المعلمون متذمرون من الوضع المعيشي و من الحياة.. أي أن يُعين عامل مخصص للجرامافون أو أشرطة الموسيقى ليفتحها صباحا و في أوقات الفراغ حسب مزاج الطلاب و المعلمون..
فرض عقوبة على الطلاب الذين يأتون إلى المدرسة و يهملون واجباتهم و يقومون بالفوضى, و ذلك باحالتهم الى العمل في الحرف اليدوية, لأن مجرد حضورهم في المدرسة يكون بسبب رغبة أهاليهم و ارسالهم الى مكان لا يريدونه..
هذا المقال مفتوح, و قابل للتعديل و الزيادة.. فأهلا بكم في أي وقت!
امرأة صغيرة, لا يعرفها الكثيرون منا, تحب القراءة. من الخطأ أن نقول “تحب القراءة”, علينا أن نكون دقيقين في وصف تلك المرأة المجنونة, إنها تلتهم الكتب, واقعة في حب ادواردو غالينو, كل ليلة ترسل قبلة إلى أمريكا اللاتينية, و تقول: تصبحون على خير يا من أفسدتموني.
عقلها و فكرها الثائر يجولا العالم مثل ثياب روبرت خواروث, ثياب الثائرة التي تبتسم بحرارة لموسكو متمنية أن يرسل الله لنا لينين آخر. هذا العالم لم يقطع أحد رأسه بعد, الرأسمالية موجودة, و نحن نتكاثر ببلاهة, و فكرة المسرح النقال لانتقاد السلطة لا تعجبني. هذه المرأة تحدق في كل شيء, تخرط أصابع النار لتحرق جلد السكون و الخمول..
تشاركني الحزن و الندم و الفرح و النميمة و الضحك و الأيام العظيمة التي نتركها على مقاعد الجامعة, هناك حيث نخطط لمستقبل الضوء, و نبني برجا ليس عاجيا, نريده على مقاس أحلامنا, هناك أيضا, أقصد بالـ “هناك”, الجامعة, في المكتبة أو قرب النافورة التي تتوسط المباني العلمية و الأدبية و المختبرات, نتبادل الأحاديث التي لا تنتهي, أنا الكاتبة المنهمكة في عزلتي, و هي الشاعرة المجهولة الغارقة في أشبار و أشبار من ماء العشق و الحكمة.
تمشي إلى جانبي مثل لبؤة حائرة في كيفية افتراس غزال سريع لأولادها الصغار, تتوقف فجأة و تقول ” لقد كان أفضل منه, كان يكلمني حين أحتاجه, مرة مرضت و لولا أنني استحلفته بالله لجاء و نام على عتبة بابي, لماذا تمنحنا الحياة الحبيب الخطأ في الأيام الجميلة و مع ذلك يبقى الحبيب الأول؟.. انها ليست تفاهة أن نآمن بالحب للحبيب الأول, انها عين الحكمة, انه الحبيب الذي عرّف لنا الحب في بداية تكوينه..”.
تحب فيروز و زياد الرحباني و ياسمين ليفي و مؤخرا سحرتها موسيقى التشيلي.. إنها خسارة كبيرة أن لا تعرفوها, سوف تأخذكم إلى ما لا تدرون, هي التي تتقن غناء الحياة, تفكر بترك الدراسة و الانضمام إلى طبقة البروليتاريين الكادحين, هناك حيث الخياطة مهنة رقيقة بالنسبة إلى امرأة شاعرة تحب الفساتين و الفلامنكو و الكعوب العالية.
الساعة السادسة صباحا, نتشاجر على الضوء, أختي تغادر سريرها و تترك لي الغرفة ذاهبة إلى غرفة أخرى و لكن معتمة.. الشيء الوحيد الذي أغاظني هو أن ضوء الشمس كان يتسلل عبر النافذة تدريجيا إلى غرفتنا و إلى البيت بأكمله.. فما الذي دفع أختي لأن تغضب لأنني أشعلت النيون؟. عدم الحاجة ؟
أشياء غريبة حصلت لي في ذلك الصباح, فقد استيقظت في وقت مبكر على غير عادتي, و أدركت كم ضيعت من وقتي لأنني لم أقرأ رواية العطر من قبل.. كان غرنوي يتطلع إليّ باندهاش من بين الصفحات, كما لو كان يستكشف رائحة قوية تنبعث من عيني.
أضف إلى ذلك, أنني في ذلك الصباح كنت هادئة جدا, و أتحدث إلى أي شيء أمامي, لدرجة أن أمي جاءت و سألتني مع من أتكلم, قلت لها “مع ملابسي”. نظرت إلى ملابسي و لم تكلف نفسها بأن تستغرب أو تستفسر, ذهبت و أغلقت الباب وراءها بدون احتجاج. الحقيقة شعرت بأنه يجب علي أن أراجع ما حدث: افترضت أني كنت أتحدث مع ملابسي, و بناء على ذلك أكملت حديثي, و حين انتهيت, كان الصباح قد اكتمل بشروق القرص الذهبي الحار..
قلت كنت هادئة جدا, جدا, جدا.
خرجت إلى بنك القاهرة, استلمت الحوالة المالية من أختي في الإمارات, و بقيت أنتظر صديقي الإفريقي هناك, فقد كنا على موعد.. كنت أحمل في حقيبتي رواية ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ, أخرجتها لأقرأ بضع صفحات و أستغل وقت انتظاري.. وصل, لا يمكن لأي شخص أن يخطئ الملامح الإفريقية السمراء. شعرت بالغرابة في ذلك الصباح لأنني لم أتحدث باللغة العربية على الإطلاق. كان علي أن أقول فقط “هنا”, أو “شكرا” للسائقين. ذهبنا إلى كنيسة القديس برفيريوس, هناك أيضا كان الشاب الروماني يتحدث اللغة الانجليزية.. تركت الشابين يتحاوران و رحت أتأمل اللوحات الكبيرة المعلقة على جدران الكنيسة.. استوقفني باب بدا لي أنه سري, و لا يجب علي فتحه, و بالفعل, صاح الشاب الروماني “لا لا تفتحي.. هنا يرقد هيكل القديس”. و بهدوء تركت أكرة الباب, و بدأت بالتصوير..
الكنيسة على يميننا و الجامع على يسارنا, بينهما جدار متسامح و وديع و هادئ تماما مثل قلبي
كان صباحا سريعا, مر بدون طائرات أو أحزان.. فقط كانت الذكريات و رائحة الخروب التي تنضح من ذلك الشارع القديم في غزة..
لماذا يحب أهل غزة الغرباء؟. أي غزي يمر عنه أجنبي و لا يتركه إلا بسلام أو بابتسامة عريضة أو حتى بعناق؟. من ناحية أخرى, لماذا يحب الغرباء أهل غزة؟ فمن السهل أن يقع الغريب في حب الغزي. سوف أجيبك ببساطة؛ لأننا ( نحن الغزيين) ننتمي إلى ذلك النوع البشري الطيب و الواضح.
قبل أيام وصل صديقي طلحة غزة, الشاب الذي ينحدر من أصول افريقية ذات ثقافة ممتزجة باللون الأبيض التي ورثها عن أمه الشقراء. للوهلة الأولى ظننت أنني أصافح شابا فلسطينيا لشدة ما بدا على وجهه من ملامح فضولية تتوق إلى اكتشاف كل بقعة في غزة, كان يلف حول عنقه الكوفية, يمشي باختيال و يحاول أن يكون “غزاويّا” بكل خطوة يمشيها في الشارع.
سألته إن كانت غزة كما كان يتوقع قبل رؤيتها أم لا, هز رأسه بمكر و قال ” نعم, كما كنت أتوقع, جيدة”. و في الحقيقة هو لا يعرف عنها شيئا. التزمنا الصمت لدقائق ثم عدنا للحديث, شعرت بأنني بحاجة إلى الصمت مرة أخرى, فنحن في مكان يحرضنا على الصمت و التفكير و الوجع..
اقترحت على طلحة بأن نغادر خيمة التضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال الاسرائيلي, الخيمة البائسة في وسط حديقة الجندي المجهول.. امتد بصره نحو نساء مضربات عن الطعام و قال بارتباك ” لنخرج من هنا”.
في شارع عمر المختار, غريب يمشي مع فتاة غزية, المارة يلتفتون إليه, عيونهم لا تخطئ الغرباء.. من أين أنت؟. أترجم للغريب ما يقوله الرجل الغزي, فيقول طلحة ” أنا من جنوب افريقا”.
أن يرن هاتفك الخلوي في منتصف الليل, تنهض من نومك العميق و الهادئ, تفتح هاتفك فتجد رسالة وصلتك, ليست من قريب أو بعيد, بل من إدارة الجامعة التي تدرس فيها !. إذا هذا كل ما في الأمر!, الرسالة تُعلمني برصد علامتي في مادة اللغة اللاتينية, و لا مجال للمراجعة فأنا راسبة في تلك المادة, و علي أن أعود مقدار مادة من الدراسة حتى تكتمل زخرفة شهادتي فيما بعد..
حدجت بصري في عتمة الغرفة, كأنني أبحث عمّن يواسيني في هذا الموقف المؤلم و هذه الصدمة الغير متوقعة, نسيتُ مفردات الأمل و انخرطتُ أبكي و أندب حظي مع هذه المادة, خصوصا و أنني لأول مرة أرسب و منذ دخولي الجامعة, لا أذكر يوما أنني رسبتُ إلا مرة واحدة حين كنتُ في الصف الثاني الثانوي, القسم العلمي, أذكر يومها أن رسوبي في مادة الأحياء لم يكن رسوبا بالمعنى الفاشل مقارنة بهذه المادة التي رسبت فيها بالجامعة, يومها أيضا بكيت و لكن لم يكن بكاء يائسا مثل هذا, فقد انهمرت دموعي أمام أستاذ مادة الأحياء, أخذني الأستاذ إلى خارج الصف و طمأنني بأنه سيرصد علامة الشهر الفائت بدل علامة الرسوب, و زاد على ذلك علامتين لأنني طالبة متفوقة و حرام أن يهبط معدلي بسبب خطأ عابر. كان طيبا و كان الرسوب في المدرسة أهون و يختلف عن الرسوب في الجامعة .
أغلقتُ هاتفي الخلوي و فتحت صفحتي الشخصية في الموقع الالكتروني للجامعة, تأكدتُ تماما من رسوبي في المادة, فعدتُ أبكي بحرقة, اتصلتُ بصديقتي في الدراسة و أخبرتها بكربي هذه الليلة, صارت تهوّن علي و تخفف عني.. انتهت المكالمة و بقيتُ متسمرة أمام شاشة الحاسوب, بسبب هذه المادة ضاع نومي و فقدتُ المنحة !.
اتجهتُ إلى مقر شؤون الطلبة في الجامعة كي أقدم طلب مراجعة في المادة المشئومة, فوجئت بأن الطلب أرسل إليهم الكترونيا دون علمي!, و هكذا عرفتُ أن خمس دنانير أخذوها من حسابي و لكن سدى, فقد تلقيت رسالة منهم تخبرني ” طلب المراجعة مرفوض.. لا تستحق النجاح “.
لطالما تعاطفت مع الراسبين و لطالما تدرّبت على تلقي الصدمات, و لكن الشعور بالرسوب ذاته اكتشفت أنني لم أكن أشعر به كما يجب , فأي مضاد حيوي يقتل بكتيريا انكسار حطّم القلب من أوسع صماماته!. بعد رسوبي في المادة, دخلنا فصل دراسي جديد, كانت معنوياتي منخفضة و بسمتي باهتة, جلستُ في آخر مقاعد في القاعة, لم أكن أطيق أن أرفع رأسي عن رواية العمى لساراماغو لأجل أن أرى نفس الدكتور يدرسني و الذي قال لي ” لقد رسبتِ في المادة التي أدرّسها.. ألم أقل لكِ أنني عنيد “.
اللعنة, من بعد تلك المحاضرة اختفيتُ و قررتُ أن أسحب المادة و أسجلها في فصل جديد مع دكتور يقدّر طلابه و يعاملهم بأدب و احترام.