كنتُ أريدُ أن لا ننام – قصيدة ل داليا طه

كنتُ أريدُ أن لا ننام
أن تفتحَ البابَ وتضعَ حقيبةَ ظهرِكَ الحمراءَ
على الأرض
أن تخلعَ حذاءَك القاسي
وتُعَلِّقَ مِعطَفَك
بعدَ ذلك نستطيعُ أن نبدأ
بما تبقّى مِنك
ويَمشي في العتمةِ بعيداً عن مِقْبَضِ الباب
مادّاً ذِراعَيْهِ أمامَه
مُتَحَسِّساً الجدرانَ والأثاث.
حتى الآن الكلماتُ لا تخرجُ من فَمِك
ولكنَّني أسْمَعُك
وقد أضأْتَ مِصباحاً
وكلُّ هذه التُّحَفُ الصغيرة
التي لا تعرفُ ماذا ستفعلُ بها
ستملأُ الغرفةَ مرةً واحدةً بالظلال
وبينما تزدادُ العتمةُ في الخارج
ستعْبُرُ أمام النافذةَ الواسعة
التي تُطلُّ على صفٍّ من الأَشجار
ثم تشعُرُ للحظةٍ بغرابةٍ أننا نتَشاركُ مع هذه الكائناتِ الغامضةِ نفْسَ العالَم
هذا سَببٌ كافٍ لأنْ نُخْفِضَ أصواتَنا
ونتحركُ بلا ضجَّة
بِبُطْءٍ
كما لو أن أحداً ما أعارَنا أجسادَنا لِلَيْلَة.
كلُّ شيءٍ حَيّ
حتى لو لم يكنُ يملكُ قلْباً
حتى المركباتُ القليلةُ التي تعبرُ الشارعَ الآنَ
تبدو كَذِكْرى
والمتظاهرون الذين كانوا هنا في الصباح
لقد تفرَّقوا منذُ ساعات
والساحاتُ خاليةٌ منهم
ولكنهم تركوا وراءَهم شيئاً: كما لو أنهم قد غادروا للتَّوّ
نحنُ نعرفُ الآنَ أن ابتساماتِهِمُ
تنزلُ عن أعمدةِ الكهرُباءِ حيثُ علَّقوا أجْسادَهم
انظر معي
الليلُ انتشرَ في كُلِّ مكانٍ
حتى النباتات تبدو كأنها تعرف ذلك
وبدأت تُنصت
ويكفي أن تجلسَ هنا
دون أن تفعلَ شيئاً لتبدو
جميلاً
ولكنكَ تحاولُ أن تجد سبباً للخروج
على الرُّغم من أن الليلَ طويل
أيها المطرُ اهطُل على هذه المدينة
هناك حواجزُ كثيرة
وجنودٌ على مداخلِ المدينة
ومَن يدري
إذا خرجنا قد لا نعرفُ كيف نعودُ إلى بيوتِنا
ولكنَّنا وُلِدنا للتَّوّ
ولا نعرفُ أين نحنُ بالضَّبط
وفي الليل نحن والأشجارُ نصبح
عائلةً
وهذا سببٌ وحيدٌ وكافٍ
لأَنْ نُسمّي هذا العالَم
الشاسعَ والغامضَ

Dalia Taha داليا طه

مقلوبة – نص ل مايا أبو الحيات

النص و الصورة لِلشاعرة مايا أبو الحيات

أطلب لأولادي بيتزا بأطراف محشوة بالجبنة
واعرف أنني سآكل مقلوبتي وحدي لثلاثة أيام متتالية
ورغم الأسطورة التي تقول أن المقلوبة أطيب عندما “تبات”
إلا أن الأسطورة لم تثبت جدارتها معي
فالشكل يصنع للمقلوبة طعمها
حين تتحقق الرغبة بالانقلاب
ثم تتبادلان
الرغبة والشكل
المهام
في صناعة طعم محروق
يلتصق بقاع الوعاء.
● ● ● ●
صديقتي الفلاحة تصنع مقلوبة لا يحبها أصحاب المدن
هل المقلوبة مدنية؟ أم من القرية؟ نسأل بعضنا على استحياء
الفلاحة تعرف أن الزهرة البلدية يتم صبغها باللون الأصفر في أسواق رام الله
لهذا المقلوبة لا طعم لها في المدينة
بينما لا يطيق أهل المدينة طعم الدجاج الذي يتمشى في حدائق القرية الواسعة
فهو لا يشبه طعم الذي يفرم في “المعاطات”
وحين تتحول المقلوبة إلى حدث مجتمعي يستدعي الأسئلة الإنسانية الكبيرة،
نملأ فمنا بالأرز ونتوقف عن الكلام
فلا أحد يريد أن تفقد الأكلة
طعمها
● ● ● ●
مقلوبة المغتربين
مقلوبة وطنية
تصنع في الأعياد والمناسبات الخاصة
من الممكن جدا أن ترى علما يُرفع فوقها
ورقصات جماعية وموسيقى ودعوات للجيران الأجانب
فالجميع يعرف أنه من المستحيل
حتى في الغربة
أن تصنع مقلوبة
لشخص واحد

كمن يرى حبيبته عارية لأول مرة
تسقط المقلوبة من القدر محرجة
إنها أكلة معقدة
وتحتاج لبحوث على أكثر من طبقة
فهي الصنعة التي عليك أن تنزل فيها إلى القاع
قبل أن تصل إلى القمة.
ورغم أنها تبدو واحدة لدى الجميع
إلا أن لكل واحد منا مقلوبته الخاصة
فهناك من يكتفي بالزهرة أو الباذنجان
ببساطة الأشياء التي تثق بما لديها
وبعضهم يعقد الأمر بشرحات من الجزر والفلفل،
أو البندورة وفصوص الثوم
هذا النوع من التعقيد غير مستحب،
لمن يعرف أن المقلوبة لا تكون إلا بالزهرة والدجاج “للفقراء”
والباذنجان واللحمة “للطبقة المتوسطة”
وطبعا لأنها مدورة
فلا بد من مشكلة تدور حولها
فهي أكلة يوم الجمعة
بعد حمام الأخوة الذكور
ومشاكلهم الأسبوعية
وتعزيل البنات البيوت لأمهاتهن
أنها أكلة الجمعات المشوبة بالحذر والتوقعات والتشنجات
والاختبارات الصغيرة.
وحين يعبر النهر صالة الجلوس
تصبح أكلة للحنين
تقلب فيها الذكريات الحقائق
وتصنع الحب
● ● ● ●
لم أعرف كيف أطبخ المقلوبة كما تفعل الأمهات،
الفلسطينيات منهن على الأقل
وبعد مرات متعددة من صنعها وفشلها
لا زالت مقلوبتي بيضاء
وطعمها محايد
وحتى حين عرفت سر صنعها
“ألسمنة المضافة على وجه مرق اللحم، التي لا يباح بأمرها لمرضى القلب وتصلب الشرايين”
ظلت مقلوبتي صافية
بلا شوائب
أكلتها في بيت عمتي، فكانت حبات الأرز مرصوصة فوق بعضها بكبرياء
وفي بيت صديقتي أرتخت حبات الأرز ملتصقة باللحم والباذنجان
وفي بيت حبيبي مزينة باللوز والشعيرية
كنت أراقب هبوطها على صينية الستيليستين، كمن يراقب حدثا سيحدد شكل الساعات القادمة
فهي إما ستنزل كقالب كعك العروسة، فنصفق لها
أو ستنفرط كحبات العدس من كيس مثقوب، فنكتفي بالمزحات المشجعة
لكنني أحببتها في كل حالاتها،
وحين بدأت بتحليل نفسي، كما تفعل الطبقة المتوسطة الجديدة
فهمت أنني لم أملك مواصفات محددة للحب
وأنني أحببت ما كان يقدم لي، مهما كان شكله وطعمه
وأنا أعود إلى مقلوبتي البيضاء وأتذمر
● ● ● ●

على الجسر / طارق العربي

● ● ●

[ على الجسر 1 ]

1
الجِسر ُبين هُنا وهُنَاك
ليس جرحاً غائراً
فِي الَقَصِيدة
هُو توَقيتُ الِقياَمةِ
حين نَمشِي عَكس
الزَنبقَة

4
لَم أَقل للتفاصيل ِ
حِين مَررَتُ
شَكرا
بَل قُلت لنِفسِي
” أَنا حَقيقَة
ونَهرُ الضَفتين حقيقة
والمُجندة عَلى الحُدود
ضرورة مَن اَجِلَ
صرع الحياة

3
نابلس ، حاجز زعترة، طريق المعرجات ، استِراحَة أَريِحا
لا شَيءَ لا شَيء َ عَلى الطَرِيق
كل شيء عَلى مَا يُرام
الا القصيدة

4
حتَى القَصِيدة فِي زَمَن الحَداثة تَبدو لاجِئَة

5
المٌجنَدة ابتَسَمت ِبوجه طفلة ٍ
كانت
تلهو فِي قَاعَة
المُغادِرِين
ولم تَبتَسم لِي

6
عَلى الجسرِـ
لا شي لا شيء يقلقني
أفكر بامرأة لا تشبه أحداً
أو بِضحكِة ابن اختِي
أو بصديقي الذي يجدُ وقتاً
للقراءة
و كتاَبة ِالشعر
والتَسوق
والضحك
وتدريس أطفالهِ الثَلاثَة …!

7
كُنتُ أحيا هَاجسَ الوقت وهاجسَ الخوف
مِن خَطأَ الرصاصة

8
هَربتُ مِن جَفَاف النَهَرِ
وحداثة رام الله
وأَشياءَ أخُرى
نسيتُها

9
لا أَحنُ الى أَيَّ شَيءٍ
قهوة أصدقائي
فَجر أَبيِ
صَفحَات الجبات في الطريق الى رام الله
لا أحن إلى أي شيء
أحن الي
الى حلم نمى قًبيلَ القِيامِة
بساعة …!

10
رام الله الآن آلهةُ نفسها
وأنا إله شِعِري

11
لا أُصدِقُ حَقِيقَتِي
رقصت، عَاطَفتي/
خُطوتِي إلى اللاشيءِ فِيَّ لا أُصدقُها
ولا أصدق احد

12
يُعِيدُ الشاعر كِتاَبَةَ نَفسِه
مَتنُ النّصِ حاشيةُ حُلمي
والهامِشُ ضروري
لأخَرجَ من هَواجِسي
حياً

13
عادِيةٌ الحَياة
، التفاصيل التي لم ينتبه
اليها أبي حِينَّ كُنتُ نَائِماً تبدو
عَادِيةً
لَكن تَفاصِيلَ الشارع هُناك
حِين أَمرُّ تشبه صبح
أُمِي

14
لم يقتل المُسَافِرَ خَطأُ الرَّصاص
قتله خَطأَ الحُب
و الركضُ
الى سَّرابِ التَجربة

15
كل شيء الآن أنا
شارعُ غرناطةَ وجِبالُ
القدس والجِدَارُ والكرملُ
وخَطأُ الرَئِيسِ وكلامي أنا
وأنَا لَست أَنا / شَاعِرٌ آخر
يقَرأُ الحَياة
يتلاشى في
الصدى ويكتبني

[ على الجسر 2 ]

بريدك
يشبه الماء يجعل
كل شيء حي

1
اللاشيء فِي جَوازِ السَّفَر يبدو شَبيَه النرجس
مختبئا في أُمه أَو لا شَيء…. أ

2
لا مكانَ في الخارج سوى لا شَيء
ضَج المَقهَى بالهاربين وهَرب
الرَّاوِي منشغلا بِروَايته
و استِعَاراته
وتُفاحة الوقت

3
مشيتُ أعمى إلى هناك
لا لأقود عربة الضوء
إلى المَّكانْ
بل لأرى تفاصيلي
عَاريةً على جهاز التَفتِيش
أو أمام المُجنَدة

4
المُجندة وَحدها تَستَطيع تَبدِيل
مَجرى الرواية ولا يُضيف الرَّاوِي
شيئاً

5
خَف كُل شَيءٍ خَف…. خف
كلام الله فِي الكِتَاب اسمُ البِلاد
غِناء المُغَني، قمح الأَرض، كلامُ أَبِي لأُمِي
خف ..
ولم يبق مِنْ أبي أي شَيء
اسمِي الأوَل صَريعُ نَجمَته وحُلمها، غَضَبَة في البَيتَ
إن لم تطبخ أُمِي طعام الغَدَاء، غَضبَة مِنِي إِن
لم أُصلِ، أو أن لم أزر أختُي الكُبرَى
زَغرودة أُمِي خَفَت ، نبع الأَرَض، الشِعر خَف
اسم البلاد خف خف خف خف خف

6

الشِاعر كَاذِبٌ فِي حَداثتِه ِ
والشعر تَلاشِى…. تَلاشِى
تَلاشَى الكلام في ظلِال السفر
تلاشى و لا شيء لا شيء… الآن
القصيدة تذهب إلى المول من أجل التسوق
وينسى شَاعِرها شِراء المعنى

7

الخلل في النرجس… ولا صواب في الحقيقة الزائفة

8

الغريبة لا تَعرِف شَيئَا عَن الكَّرمِل
ولا أنا\ أمسينا عاشقين فجأة
رَق قلبينا فَجأة
من مِرور هَواء الكرمل
عَلى القصِيدة

9
الآن فِي البلاد\ الأمنيات تَصعَدُ في قَلبِي
هَواء خَفيِفاً على الروخ
والوقت

* طارق العربي:
شاعر فلسطيني من نابلس
مواليد 1984

لن ترو حلمي/ لمهيب البرغوثي


● ● ●

لن ترو حلمي

1

لن ترو حلمي
فرأسي
فارغ
والنهر يمر منة
وعلى ضفافه تعيش
الخرافات
بالامس فقط
مر الجنود
على بقاياه

2
ايمكن تحويل الاهناك
الى فراغ من اللا شي

3
بقداسة بوذي
اجلس امام المقبرة
احتسي البيرة البارده
واحلم متى سيجلسون
قربي
لاحرس حلمهم

4
مسرعا نحو ماضي
لاسقط الذنوب
عن كتفي كنت
ككلب صيد يستيقظ
فجأة
فيرى المدينة
مطفئة ابدوا
احيانا

5
الناس احذية العيون

ـــــ

أنا لا احد

لا ظلاً أساوره الشكوك ،
ويتبعني منزعجا ،
لا تاريخا احمله أسباب فشلي

أنا لا احد
لا أما
تتحسس صباي وترفع غرتي حين يداهمني الحلم
أما ، ترثي أخطائي

أنا لا احد
لا أبا
اخجل من نظراته حين أعود ثملا
لا أبا اسرق منه سرا مصروفي اليومي
وسر الرجولة ،وتعويذة المساء

أنا لا احد
لا أخا اسر أليه أسرار الصبايا وابكي بين كفيه

أنا لا احد
لا أختا
أراقبها حين يهديها حبيبها وردة

أنا لا احد
لا عائلة احمل عنها أعباء الطريق
واحملها دمي

أنا لا احد
لا قبيلة أدافع عن شرفها وأتاجر باسمها

أنا لا أحد
أنا لست سوى موتٍ يجمع ضجيج الكلمات
حين أمر كغيمة بين السحب

* مهيب البرغوثي:
شاعر و مصوّر فلسطيني

يوم ربيعي/ لحافظ البرغوثي

● ● ●
كان نهارا مشمسا في ذروة الربيع الأخضر.. لا تتثاءب وناظرك يتدحرج فوق البساط الأخضر.. هذا اللون الملائكي يطرد بقايا النعاس عن عينيك.. وثغاء الاغنام وهي تطارد الاعشاب الغضة يختلط بأغاريد الطيور.. يا له من من يوم ربيعي يفرش ساحته الزمنية أمامك لكي تستوعبك لا أن تضيعها داخل حجرة عملك في المدينة المشبعة بالنفاق والدجل.. تقول في قرارة نفسك إنه يوم أثمن من شهر فكيف أحرق مساحته الزمنية في الطرقات من وإلى المدينة وفي تداول الاوراق والمعاملات والمقالات والصفحات.. اهبط الى الحقول.. استلق على الاخضر غير الرنان.. ذاك المخملي الملمس ذي الرائحة الانثوية الشبقة رائحة الارض وعشبها.. اطلق اغنامك لكي ترعى.. وأرع معها.. تناول اغصان السيسعة واوراق العليتش والمر والمرير والقوص.. ففيها فائدة للجسم لعلها تنقي الدم وتنشط المعدة.. تأمل دورة الحياة لدى النبات وتفكر في خلق الله.. كل الأنبياء تداولوا الطبيعة وأفضت بهم الى يقين الايمان.. كل الانبياء حملوا عصا الرعي ورعوا أغنامهم وذاقوا مرارة العشب.. قبل ان يحملوا مشعل الايمان ويذوقوا مرارة الانسان الكافر.
النهار الربيعي الجميل يجب ان نضن به على العمل.. فلننطلق فيه الى الطبيعة تطهر نفوسنا من ملوثات العصرنة والعولمة والمجتمع المدفوع الى موبقات النفاق.. ولهذا اختار القدماء اعيادا لهم في ذروة الربيع.. كشم النسيم لدى المصريين والنيروز لدى الفرس والاكراد.. وخميس طلعة البنات وخميس صباغ البيض لدينا.. إنها أعياد للاحتفال بالطبيعة وهي في ابهى زينتها..
في الليل الربيعي المتألق يتزامن اكتمال البدر والسماء صافية الا من نسيم طازج.. يا له من ليل فضي صاف يليه نهار مشمس.. تستطيع ان تتفكر في الافاق.. وان تستلهم العلم من السماء وعندما تنام يسكب القمر اشعته عليك وأنت مستلق على سريرك.. وكأنه يدعوك الى إكمال السهر والتدبر في ملكوت الله.. ففي مثل هذه الليالي عثر المفكرون على الحقيقة.. وانتشى الانبياء وفرح الفلاسفة.. وغنى العشاق.. وتهجد المتهجدون وفتح النساك قلوبهم بالايمان.

* حافظ البرغوثي:
كاتب فلسطيني
رئيس تحرير جريدة الحياة الجديدة

من أجمل ما قرأت عن " الابنة",,

ابراهيم جابر ابراهيم *
● ● ●
«بَسْ إنت»!
للطفلة سحرٌ آخر… ضحكتها، بكاؤها، حردها، دلعها، نومها على ركبة الأب، دفاترها الملونة، نقش أساورها، وحنان قلبها الذي حين أحتضنها…. يا إلهي كم يشبه رفيف فراشات ملونة على قميصي!

يكون البيت موحشاً من دون ضحكات البنات، وتخفت رائحة الياسمين المتعربش على الحيطان، ويصير الشاي مُرّاً، وتبرد ألوان الستائر، وكم أشعر بالوحدة حين لا أسمع موسيقى خطواتهن الصاعدة الدرج!

ترتبك أيامي إن ما بدأت بصباحاتهن المتثائبة، وإن ما نفضن شعرهن المبلل في وجهي، وعبأن جيوبي بالأمل. تبقى قبلاتهن على وجهي عطراً خفيفاً، وعناقاتي لهن أظلّ أحملها كالتميمة، تحفظني من وحشة المدن البعيدة، وأصابعهن تربت على كتفي أنىّ ابتعدت. للبنات في البيت رائحة الأمومة، طعم الرضى، دلع الصديقات المدللات، وطيش النساء اللواتي يثقن بكيدهن.

فساتينهن الملونة، أحذيتهن، خواتمهن، مشابك شعرهن، عطورهن، ألعابهن ودببتهن،… وكأس الشاي الذي من يد طفلتي «يعادل كل خصور النساء وكل العواصم»!

ضحكات الصغرى تتساقط على سريري كالخرز الملون، والوسطى تعدّ بأصابعها شعراتي البيضاء، والكبرى تحاول استدراجي: تعال نغسل مزاجك الملول برحلة للبحر؟.. وأنا بينهن كملك!

***

بناتي كبرن.. صرن صبايا صغيرات، وأشعر بمتعة خرافية وأنا أحادثهن على الهاتف!

كأن ضحكاتهن الصغيرة تخمش قلبي.

لكنها متعة دامعة، حين أسأل واحدة من سيداتي الأميرات الثلاث: اطلبي مني أي شيء، ماذا ينقصك؟ فتقول بحسرة: «بس إنت»!!

ثلاثُ بنات كالأغنيات، كالأساور، كثلاثة أسماء للبهجة، يشبهن ورداً ينهض من نومه، أو ثلاث عرائس يرقصن على غيم خفيف، فيتركن ما يترك الندى على ورق شجرة الدراق. أو ربما أنهن موسيقى خفيفة لا تشبه أكثر من خفق القلب.

للطفلة في البيت وقعُ الطائر، خفة النحلات، مرحُ التلميذات على درج المدرسة، لضحكاتها ما يجعل حتى طعم النهار أحلى!

ولما تمدّ يدك تدفعها على «الأرجوحة»، فتصيح بك أن تدفعها أكثر.. لترتفع في الهواء أكثر، يطير قلبك خلفها ويعود معها، ويعود يطير معها، «كأن هذه البنت روحي»… تقول لنفسك!

وتجيء الصغرى تمد وجهها تقبّلك وتركض، وتلوّح بشعرها قبل أن تنعف في حِجرك ضحكاتها الحنونة، وتقطف من شجرة قريبة بعض فتات الياسمين، تفركه بوجهك، وترميه في عبّ قميصك، تعود تقول «يا الله.. هذه البنت أجمل ما صنعتُ في عمري»!! وإذ ترتبك الكبرى الصموتة، تودّ لو تمازحك وتتهيب، وتتوق أن تتركض معك وتلاعبك وتحضنك، لكنها خجلى، وقليلة الكلام، تقول في نفسك «يا اسمي، ويا قهوتي، ويا خيوط قميصي، ويا تفاصيل دمي تعالي أقبّلك كثيراً. لم يبق لي في هذه الأرض الكثير»!

……

أيتها الصبايا الصاعدات إلى أعمارهن على الدرج المقابل لنزولي، تمهلن قليلاً؛ أريد أن أراكن أكثر!!

* ابراهيم جابر ابراهيم:

قاص فلسطيني مقيم في الامارات

شتاء ريتّا الطويل / محمود درويش


● ● ●

ريتا ترتب ليل غرفتنا : قليل هذا النبيذ

وهذه الأزهار أكبر من سريري

فافتح لها الشباك كي يتعطر الليل الجميل

ضع ههُنا قمراً على الكرسيَّ

ضع فوق البحيرةَ

حول منديلي ليرتفع النخيل أعلى وأعلى

هل لبست سواي ؟ هل سكنتك إمرأةٌ

لتجهش كلما التفّت على جذعي فُروعُكَ ؟

حُكَّ لي قدمي وحُكَّ دَمي لنعرف ما

تخلفه العواصفُ والسُّيولُ

منِّي ومنك …

تنامُ ريتا في حديقةِ جسمها

توتُ السياجِ على أظافرها يُضيءُ

الملحَ في جسدي . أُ حبُّكِ .

نام عصفوران تحت يديَّ…

نامت موجةُ القمح النبيل على تنفسها البطيء

و وردةُ حمراء نامت في الممر

ونام ليلُ لا يطول

والبحر نام أمام نافذتي على إيقاع ريتا

يعلو ويهبط في أشعة صدرها العاري

فنامي بيني وبينك

لا تغطي عَتمَة الذهب العميقة بيننا

نامي يداً حول الصدى

ويداً تبعثرُ عزلة الغابات

نامي بين القميص الفستقي ومقعد الليمون

نامي فرساً على رايات ليلة عرسها …

هدأ الصهيلُ

هدأت خلايا النحل في دمنا

فهل كانت هنا ريتا

وهل كنا معا ؟

… ريتا سترحلُ بعد ساعاتٍ وتتركُ ظلها

زنزانةٌ بيضاء . أين سنلتقي ؟

سألَت يديها ، فالتَفَتُّ إلى البعيد

البحر خلف الباب ، والصحراء خلف البحر

قبلني على شفتي قالت .

قُلتَ : يا ريتا أأرحلُ من جديد

مادام لي عنبٌ وذاكرةٌ ، وتتركني الفصول

بين الإشارة والعبارة هاجسا ً ؟

ماذا تقول ؟

لا شيء يا ريتا ، أقلدُ فارساً في أُغنية

عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا …

عَنّي ؟

وعن حلمين فوق وسادةٍ يتقاطعان ويهربان

فواحدٌ يستل سكيناً وآخرُ يُودعُ الناي الوصايا

لا أدرك المعنى ، تقول

و لا أنا ، لغتي شظايا

كغياب إمرأةٍ عن المعنى ،

وتنتحرُ الخيولُ في آخر الميدان …

ريتا تحتسي شاي الصباح

وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ

وتقول لي :

لا تقرأ الآن الجريدة ، فالطبول هي الطبول

والحرب ليست مهنتي . وأنا أنا . هل أنتَ أنتْ ؟

أنا هو

هو من رآكِ غزالةً ترمي لآلئها عليه

هو من رأى شهواتهِ تجري وراءكِ كالغدير

هو من رآنا تائهين توحدا فوق السرير

وتباعدا كتحية الغرباء في الميناء

يأخذنا الرحيل في ريحه ورقاً

أمام فنادق الغرباء

مثل رسائلٍ قرئت على عجل

أتأخُذني معك ؟

فأكون خاتم قلبك الحافي ، أتأخُذني معك

فأكون ثوبك في بلاد أنجبتك … لتصرعك

وأكون تابوتا من النعناع يحمل مصرعك

وتكون لي حياً وميتاً

ضاع يا ريتا الدليل

والحب مثل الموت وعدٌ لا يرد .. ولا يزولُ

… ريتا تُعدُّ لي النهار

حجلاً تجمع حول كعب حذائها العالي :

صباحُ الخير يا ريتا

وغيماً أزرقاً للياسمينة تحت إبطيها :

صباحُ الخير يا ريتا

وفاكهةً لضوء الفجر : يا ريتا صباح الخير

يا ريتا أعيديني إلى جسدي لتهدأ لحظةً

إبرُ الصنوبر في دمي المهجور بعدك ِ .

كلما عانقتُ برجَ العاجِ فرت من يديَّ يمامتان ..

قالت : سأرجع عندما تتبدل الأيام والأحلام

يا ريتا طويل هذا الشتاء ، ونحن نحن

فلا تقولي ما أقول أنا هي

هيَ من رأتكَ معلقاً فوق السياج ، فأنزلتك وضمدتك

وبدمعها غسلتك ، انتشرت بسوسنها عليك

ومررت بين سيوف اخوتها ولعنة أمها وأنا هيَ

هل أنتَ أنتْ ؟

.. تقوم ريتا عن ركبتي

تزور زينتها ، وتربط شعرها بفراشةٍ فضيةٍ .

ذيل الحصان يُداعبُ النمش المبعثر

كرذاذ ضوءٍ فوق الرخام الأنثوي

تعيد ريتا زر القميص إلى القميص الخردلي … أأنتَ لي ؟

لَكِ ، لو تركت الباب مفتوحاً على ماضيَّ ،

لي ماضٍ أراه الآن يولدُ في غيابك

من صرير الوقت في مفتاح هذا الباب

لي ماض أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة

لي رغوة الصابون

والعسل المملح

والندى

والزنجبيل

ولكَ الأيائل ،إن أردت ، لك الأيائل والسهول

ولك الأغاني ،إن أردت، لك الأغاني والذهول

إني ولدت لكي أحبك

فرساً تُرقِّصُ غابةً ، وتشق في المرجان غيابك

ووُلدتُ سيدةً لسيدها ، فخذني كي أصبك

خمراً نهائياً لأشفي منك فيك ، وهات قلبك

إني ولدت لكي أحبك

وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبك

ووجدت حراس المدينة يُطعمون النار حُبك

وإني ولدت لكي أحبك

ريتا تكسر جوز أيامي ، فتتسع الحقول

لي هذه الأرض الصغيرة في غرفة في شارعٍ

في الطابق الأرضي من مبنى على جبلٍ

يطل على هواء البحر . لي قمرٌ نبيذيٌ ولي حجر صقيل

لي حصة من مشهد الموج المسافر في الغيوم ، وحصة

من سِفرِ تكوين البداية و سِفرِ أيوب ، ومن عيد الحصاد

وحصة مما ملكتُ ، وحصة من خبز أمي

لي حصة من سوسن الوديان في أشعار عشاق قدامى

لي حصة من حكمة العشاق : يعشقُ وجهَ قاتلهِ القتيلُ

لو تعبرين النهر يا ريتا

وأين النهر ، قالت …

قُلتُ فيكِ وفيَّ نهرٌ واحد

وأنا أسيل دماً وذاكرةً أسيلُ

لم يترك الحراس لي باباً لأدخل فاتكأت على الأفق

ونظرت تحت

نظرت فوق

نظرت حول

فلم أجد

أفقاً لأنظر ، لم أجد في الضوء إلا نظرتي

ترتد نحوي . قلت عودي مرةً أخرى إلي ، فقد أرى

أحداً يحاول أن يرى أفقاً يرممه رسول

برسالة من لفظتين صغيرتين : أنا ، وأنتِ

فرحٌ صغيرٌ في سريرٍ ضيقٍ … فرحٌ ضئيل

لم يقتلونا بعد ، يا ريتا ، ويا ريتا .. ثقيل

هذا الشتاء وبارد

… ريتا تغني وحدها

لبريد غربتها الشمالي البعيد : تركتُ أمي وحدها

قرب البحيرة وحدها ، تبكي طفولتي البعيدة بعدها

في كل أمسية تنام ضفيرتي الصغيرة عندها

أمي ، كسرت طفولتي وخرجت إمرأةً تُربِّي نهدها

بفم الحبيب . تدور ريتا حول ريتا وحدها :

لا أرض للجسدين في جسد ، ولا منفى لمنفى

في هذه الغرف الصغيرة ، والخروج هو الدخول

عبثا نغني بين هاويتين ، فلنرحل ليتضح السبيل

لا أستطيع ، ولا أنا ، كانت تقول ولا تقول

وتهدئ الأفراس في دمها : أمن أرض بعيدة

تأتي السنونو ، يا غريب ويا حبيب ، إلى حديقتك الوحيدة ؟

خذني إلى أرض البعيدة

خذني إلى الأرض البعيدة ، أجهشت ريتا : طويل هذا الشتاء

وكسرت خزف النهار على حديد النافذة

وضعت مسدسها الصغير على مسودة القصيدة

ورمت جواربها على الكرسي فانكسر الهديل

ومضت إلى المجهول حافيةً ، وأدركني الرحيل