الغريب يتركني لحيفا

زمان.. لمّا كنت صغيرة, كانوا أهلي يخافوا عليّ كتير, كنت أضيع أكتر من مرّة في اليوم, أضيع في الشوارع و الأسواق و ع شط البحر و عند المينا و بين السيارات.. آخر النهار, كانوا الغربا يلاقوني قاعدة ببكي على الرصيف, بمسكوني من ايدي و بضلهم يسألوا عني, كانوا يعطوني حلو و برتقال لحتى يسكتوا بكائي و أحكيلهون اسمي و وين ساكنة و مين أهلي؟, بس وقتها ما كنت أعرف شو اسمي و لا بعرف عني أي شي!!.. بزكر انه نفس الرجل الغريب اللي كان دايما يعرف اسمي و يرجعني لأهلي هو نفسه اللي التقيته في الحرب.. أول مرة شفتو كنت في الصف التاني الابتدائي, يومها كنت ضايعة في قاع المدينة, حملني ع كتفو زي العلم و اشترالي لعبة و بسكوت و رجعني لأهلي.. كل يوم كنت أضيع و كان هو نفسه يلاقيني.. و لمّا كبرت شوية؛ كبر ضياعي معي و صرت اخترع الضياع اختراع لحتى يلاقيني الرجل الغريب و أشوفه و يرجعني لأهلي.. آخر مرة شفتوا فيها كانت في عز الحرب, صرت صبية و افهم في الحب , تعرفنا ع بعضنا من جديد.. رصاصة بعد رصاصة, و غارة بعد غارة, انصبنا بنار الحب.. رغم هيك ضياعي ما فارقني, حتى في الحرب كنت أضيع و كانوا أهلي يفتشوا عني,, بين الركام و يسالوا المقاومين عني.. حبيبي كان يلاقيني, بس بطل يرجعني لأهلي, صرت كبيرة و صار لازم ارجع لحالي لحيفا..

قصص ونسيانْ

أمّهات
في الوقت نفسه الذي كنتُ أحلـم فيه بأمي، كان الجندي يحلـم بأمهِ. حين صحوتُ رفعتُ رأسي الذابل عن ضريح أمي، الجندي كان متيقظاً لغفوتي الـمطاردة، كان يراقبني بمكر وينتظر خروجي من الـمقبرة ليستجوب رخامَ القبر، كان الصمتُ مسلحاً في تلك اللحظة… وددتُ لو أسأل الجندي: في أية مستعمرة تحيا أمكَ؟.

بندقية
اعتقدتُ أن الجندي يُقبّلني؛ لكنها كانت فوهة البندقيّة تستقر على صدري.

ثقب
النافذة التي ضاعت في بيتنا القديم، وجدتها اليوم في ثقب مفتاح خزانتي، كانت عمياء وتحتاج إلى غرفة لا أعرفها.

عروس حيفا
لـمّا أكبر بدّي أحب شبْ يكون اسمه غسّان، نتجوز ونرجع مع بعض ع حيفا.

قصص
الرجل الـمجنون الجريء الذي يتسلل من درج البيت إلى غرفتي، يسبب لي الـمشاكل، لا، ليس مع أهلي، بل مع ضجيجي وهوسي بقصص شفتيه…

تذْكِرة نسيان
قبل أن أطأ بوابة الجامعة، تذكّرتُ أنني لـم أنتعل حذائي، نظرتُ إلى قدميّ بشفقة، كانتا متسختين وقذرتين. أساتذتي يدخلون الجامعة و لا ينظرون إليّ، الطالبات يلتفتن نحوي بغرور أبله، لـم أخجل من عريي وشعرت بفخر غريب لـمجرد أنني قررت دخول الجامعة حافية القدمين… عندما عدتُ إلى البيت وجدتني أخلع من قدميّ حذائي، كأنني سمعتُ أخي الصغير يصرخ “إنها تقطع قدميها”!.

إجاصة اللاجئ الرائع

لن ينسى لون قمصانهم الزرقاء, و سيظل حاقدا على السماء مهما عاش, صار الأزرق ركام ذاكرته الذي لا يردمه النسيان. كانوا حوالي خمسين ولدا من أولاد صفّه, الصف الخامس الابتدائي “ج”, تحلّقوا حوله في ساحة المدرسة و ضحكاتهم تخنقه, سعيد يترأسهم و يهتف ” رائع “, يصفق الأولاد و يهتفون بعده ” راااائع “, يزلزلون كيان الطفل الصغير, يطأطئ رأسه و يودّ لو تبتلعه الأرض قبل أن تهزم عينيه الدموع, إلا أنه يستسلم لضعفه الطفولي البريء و يبكي بصوت عال, يلتم طلاب المدرسة حول الطفل ” الرائع” و يزفونه زفة الجحيم !.. رائع, رائع, رائع !!
ألبسته المدرسة اسم ” محيي الرائع”, المدرسون و الطلاب و المدير و آذن المدرسة.. ” يا رائع ليش ما حليت واجبك؟”, يا رائع جيب من عند المدير دفتر التحضير, رائع تعال نلعب, رائع رائع رائع.. أي كابوس هذا الذي يلاحقه منذ الصف الخامس؟. كره الكتب و الدفاتر, و أصابته حالة كآبة تستولي عليه صباحا, في الوقت نفسه الذي كانت تنطلق منه جوقة “رائع” منذ خروجه من البيت و حتى وصوله إلى المدرسة و انتهاء الدوام.
سنة كاملة من ال “رائع”, سنة كاملة من البكاء, سنة كاملة من البحث عن جحر الاختفاء و الهروب من طبول طلاب المدرسة. يا إلهي لماذا جعلتني “رائع”؟..
يستيقظ في آخر الليل من نومه فزعا, غارقا في بحر عرق أشد ملوحة من دموعه, يقفز عن سريره, ينظر إلى القمر و يتوسّله بأن لا يغيب حتى يطول الليل و لا يأتي نهار المآسي, و شمس رائع..
كان يتمنى أن يخبر أمه عن كابوسه اليومي, لكنه في كل مرة يقرر أن يخبرها كان يتراجع خوفا من أن تُشيع الخبر بين اخوته فتنتقل عدوى الطبول إليهم و يفعلون مثلما يفعل طلاب المدرسة معه, يكفيه ما يلاقيه في المدرسة, لا ينقصه أن يلقبوه في البيت بِـ “رائع”, فضيحة, وجع, دموع عملاقة, أكبر من طفل تقزّمت مشاعره بسبب أنفه المشوّه.
مخطوفا بالهلع, تسلل من بين أصدقائه في الطابور المدرسي, هرول إلى الصف متخفيّا قبل أن يلتقطه المدير, كم كان الطفل خائفا من الرجل الأجنبي الذي بدأ يصوّر الطلاب فرادا و جماعات, تشاجر الطلاب على الوقوف في الصف الأول من الطابور, انتشر المصورون الأجانب و شرعوا يلتقطون الصور الكثيرة لأخذها معهم إلى بلادهم الشقراء البعيدة, كدليل على بهجة الطلاب اللاجئين في مدارس وكالة الغوث و حقهم في الحياة و التعليم. أغلق محيي خلفه باب الصف, لا يدري كيف يتصرف و ماذا سيفعل؟, استرق نظرات سريعة إلى أصدقائه و هم يتعاركون على الكاميرا, كان سعيد الملعون يربح أكثر من صورة, لم تكن لسعيد ملامح الطفل, كان جسده يحمل جثة شاب سيكون ملاكما, و بالرغم من أنه طالب راسب إلا أن الأساتذة يعاملوه مثلما يعاملون الأوّل على الصف, روحه الحيوية و فكاهته اللطيفة كانت كفيلة بأن تُبرزه أمام الأساتذة بمظهر الطالب الذكي الذي يسلب لهوه علاماته في الامتحانات.
أحيانا يتحوّل المدح إلى ذم, ” رائع ” أقسى ذم يتقاذفه الطلاب, أمسك محيي إصبع الطباشير و هو يرتجف و كتب كلمة “رائع” ثم محا الكلمة و شعر بانتصار ساذج على أنفه!, تحسس بيديه أنفه, ضغط عليه بعنف, تأوّه بصوت خفيض, راح إلى لوح الألمنيوم المعلّق قرب السبورة, تأمل أنفه, يا لها من مأساة أن ينبت على أنفكَ دملا متقيحا يشبه حبة أجاص فاسدة, غضب من شكله البشع و خربش اللوح بأظافره. جلس على طاولة الأستاذ, و سرح بأفكاره إلى البعيد.. إلى مدرسة في مخيم لا يعرف لاجئوه قصة أنفه و لا يلتفتون إلى دمله و لا يعيرون تشوّه وجهه اهتماما أو تقززا.. حلم بمدرسة جميع طلابها يملكون ثمرة أجاص فاسدة تنمو على أنوفهم..
– محيي
ثمة صوت أجش يناديه من ساحة المدرسة.. نهض الطفل من أفكاره و أحلامه, إنه سعيد, يطارده حيثما هرب و اختبأ, تظاهر بعدم سماعه و لم يردّ أو ينظر إليه من نافذة الصف, لكن المسكين لم ينجُ من شر سعيد, دفع باب الصف بقبضته, و شدّ محيي من كم قميصه.. التصق الطفل بطاولة الأستاذ, سعيد يشده و هو متشبث بحواف الطاولة, ساقاه ترتعدان و لا يتخيّل نفسه واقفا أمام عدسة الكاميرا لتطلع صورة أنفه في أقبح صورة, حتما سوف يتكاثر جمهور “رائع” في كل البلاد, و سيضحك الطلاب الأجانب على شكله بسخرية بذيئة.. انفلتت يداه من الطاولة, وقع على الأرض, ارتطم أنفه بقدم الطاولة, تدحرجت الاجاصة الفاسدة بين المقاعد, سال نهر عديم اللون, تلطّخت أصابع سعيد بالنهر الرائع !

تراب و شجر في جسد امرأة

كانت البنت الصغيرة تفكر في كيفيّة زرع جسدها في التراب, هل بامكانها فعل ذلك؟ و لو حدث أن زرعت جسدها في التراب و أمطرت عليها الدنيا كي تنمو فهل سينبت من جسدها شجر بشري كثير من بنت واحدة ؟. تبدو الفكرة سهلة جدا بالنسبة للبنت المستلقية على سريرها تحت نافذة ضيقة و قمر مصغّر يطل من بين الغيوم المضيئة في السماء.. صباحا؛ تظاهرت بالمرض و لم تذهب إلى مدرستها, بررت لمعلّمتها سبب تغيبها عن المدرسة في ذلك اليوم, قالت بحزن ذكي ان الزقاق المقابل لبيتها قد امتلأ بالمطر و لم تستطع الخروج من باب البيت, المعلمة لم تقتنع بحجة طالبتها الغبيّة, فهي بنت غبية و ترسب في الامتحانات و تقترح على زميلاتها في الصف اقتراحات غير معقولة و لا يفهمها أحد سواها.
سألت نفسي بشفقة ” هل تعاني أختي الصغيرة من عقدة نفسية تتفاقم دون أن ننتبه إليها؟ “. كنتُ الوحيدة التي أتماشى مع حياتها الغامضة و عالمها الخاص المشتعل بالجنون. أحيانا تأتيني في منتصف الليل عارية و تتوسلني بأن أُلبسها قمصان النوم التي اشتريتها ضمن مشتريات أي عروس تخطط مع حبيبها لموعد الزفاف, و في كل مرّة أشعر بلغم ضحك سينفجر في فمي و أضحك حتى تدمير جدران الغرفة, و أحيانا أنهض من نومي فأفاجأ بها جالسة قبالة إصيص الورد في شرفة البيت و أصابعها مغروسة في السماد !.
أخذها أبي إلى طبيب نفساني و عرض عليه مشكلة ابنته الصغيرة, فحص الطبيب جسدها و صوّر دماغها أكثر من صورة فلم يجد أي خلل فيه, و لكي يثبت جدارته في طب النفس أعطى أبي أدوية مهدأة و دعا للبنت بالشفاء العاجل. صارت أمي نحيلة من كثرة البكاء على ابنتها, و تكاد تموت حزنا عليها, يا إلهي ماذا أصاب هذه البنت؟, منذ عقد قراني على ذلك الرجل البعيد و هي تتدهور عقليا!.
جاءت إليّ أمي و طلبت مني أن أترك زوج المستقبل!, لربما تتحسّن أختي و تشفى, تسمّرت أمام أمي و الذهول يلجمني عن الكلام, حسنا, سأفكر بالموضوع, فأنا أحبه و قرار تركه لأجل استرداد عقل أختي قرار صعب و قاس, فكري على مهل و لكن لا تنسي أختكِ, قالت أمي و الدموع تسيل من عينيها الغائرتين في الأمومة و الخوف, أغلقت باب غرفتي خلفها و صوت دقّات قلبها تقترب من مسمعيّ كلما ابتعد جسدها عني..
ليالٍ طويلة لم أنم, أتقلّب على سريري دون جدوى, من الأهم؟ الحبيب أم الأخت؟ لماذا جميع احتمالات سبب مرض أختي تُصبّ في حبيبي؟ ربما يكون السبب في غيره؟ لكن المرض بدأ يظهر عليها منذ عقد قراني عليه!!.
في عطلة يوم الاستقلال, أخذت أختي نزهة إلى البحر, جلسنا بالقرب من الشاطئ على صخرة ضخمة تتخلل الطحالب شقوقها, كانت صامتة صمت المجانين و كان التفكير يغرقني في عمق البحر. أمسكت بيدها و قلت لها بحنان ” ماذا بك يا أختي؟ تكلمي معي “, بانت أسنانها من بين شفتيها كأنها تتهيّأ لضحكة طويلة, لكنها رمت رأسها بين ذراعي و انخرطت تبكي بعنف, ربّت على ظهرها المرتعش, و بعدما حبست دموعها قالت بصوت متهدّج ” لا أصدق كيف ستسافرين بعد أيام قليلة إلى ما وراء البحر, إلى بلد آخر, إلى مخيم آخر.. لماذا لا يسافر خطيبكِ إلى هنا و تعيشين معنا “. ربما في تلك اللحظة بدأت الأمور تتضح, هي حزينة لأنني سوف أسافر إلى مدينة أخرى, و لجوء آخر, مرّ على خطوبتنا أشهر مريرة, و كان المعبر يؤجل زواجنا, فيزة وراء فيزة و في كل مرة لا يحالفني حظ السفر, المعبر يغلق, و رقم الباص الذي من المفترض أن أغادر غزة عبره متأخر, رقم 30, أمامي 29 باص محمل بعشرات المسافرين.. حين أصعد الباص, أتقوقع مع حقيبتي و جواز السفر قرب النافذة, أودّع عيون أهلي, و أمسح عن وجهي غبار غزة, آخر مرة صعدت فيها الباص, أذكر أن رجلا غريبا رمى إليّ من النافذة خاتما ذهبيا و هو يصيح ” ارميه في مصر.. لربما فكّ الحصار عنا”, لم أجتز الحدود و بقي أمامي عشر باصات حتى الآن لم يسافر ركابها المنتظِرين, الباص الأول هو بؤرة السوء عند جميع المسافرين, لأنه محاط بعناية شرطة الحدود و توصيات الوسطاء من ذوي النفوذ في البلدين!, كانت اللعنات و الشتائم تتجه كالسهام على ركاب الباص الأوّل, أما السائق فقد كان ينظر إلى ركاب الباصات المصطفة خلفه عبر المرآة المعلقة في سقف الباص و يحني ظهره اتجاه المقود كأنه يعتذر للمسافرين عن كل الظلم و قهر الانتظار..
امتزجت تناهيدي بماء البحر, قلتُ لها ” قضاء و قدر “, قالت بطفولة ” لازم تتزوج البنت؟ ” قلت ” حسب!”, قالت ” ليش يعني؟, بدها أولاد و تصير أم “, ضحكتُ و شردَ ذهني نحو موجة طائشة على الصخرة التي نجلس عليها.. بعد تلك النزهة عرفت سر جنون أختي, و بقيت أختي تزرع نفسها روحا و جسدا في التراب, كانت قد تزّوجت الأرض

رسالة رقم " 19 "

زوجتي السمراء و الخضراء والبيضاء و الحمراء: ” سامية ” ..
ها قد نجا الموت مني مرة أخرى, منذ تلك الليلة الطويلة و أنا أفكر ببهاء المقاوم الذي يأكل الرمل قبل أن يضيع, دائما أفكر ” هل ما زلتُ أمتلك شهوة الحياة؟ ” . رفاقي هنا لا يعرفون أنني متزوج و أن لي ابنة و ولد لم يأتِ بعد.. آه كم أشعر بالشوق و الألم كلما تذكرتُ ابني النائم في زمن مجهول من المكان.. المكان نفسه الذي انبلج منه فجر ابنتنا. كيف هي؟ هل كبرت و صارت تحكي ” بابا ” ؟. سوف تضحكين يا سامية إن قلت لكِ أنني ما زلتُ أحسب عمر ابنتنا بعمر الحصار !. لا تجادلينني في ذلك, فأنا متأكد أنها ولدت في أول يوم من أيام الحصار, جارتنا أم رامي كانت عند أهلها حينما نقلناكِ إلى المشفى, و كنتِ في صبيحة ذلك اليوم قد وضعتِ ابنتنا في مهد الحياة.. كم أتذوق مرارة السخرية حين أربط ميلاد ابنة بحصار مدينة! .
لا أستطيع أن أبوح بكِ و بابنتنا لرفاقي, لا لشيء ما.. فقط لأنهم منشغلون في الحرب, لا وقت لديهم لسماع أحاديثي التافهة. قبل قليل أخلوا المكان و انتقلوا إلى أطراف المدينة ليصدّوا عدوّنا, و ها أنذا بقيتُ وحدي هنا أكتبُ إليكِ و أطمئن. المقبرة في أشدّ شبحيّتها و سكونها المدوّي.. أكتب إليكِ على ضوء القنابل الفسفورية.. أكتبُ إليكِ متكئا على رخام قبر جدّي, يا للصدفة التي أتت بي إلى حيثُ يعيش جدّي موتَه بكامل البطولة و الحكايات القديمة عن حيفا..أسمع صوته يمشي إليّ من بين مسامات الحجارة و يُقدّم إليّ خذلانه من العالم في هذه اللحظات الحربية..لم يعُد يقص عليّ قصص ” أيام البلادْ ” !.
ثمّة كوفيّة تطير من جهة ما و تحطّ على كتفيّ! , وقفتُ بسرعة متأهبا للقتال, إلا أنها كانت حقا كوفية, و قد طارت عن حبل غسيل ربطته امرأة بين غصن شجرة و حافة قبر, لثمتُ الكوفية و عانقتها كأنها أنتِ.. أحبكِ يا سامية, و بقدر هذا الحب المرتجف أنا أشتاقكِ.. و خائف من تيتّم ابنتنا .. الآن بالذات أريد أن أبكي على كتفيكِ, يسيل شلال دموع عليهما, يغسل جسدكِ من عرق اللجوء و رائحة البارود, كي تمسحين بيديكِ دموعي و تربتينَ على حسراتي بعطف..
– تعال فورا إلى منطقة السمُّوني فورا فوراااااااااا
ساميتي.. يجب عليَّ أن أغادر المقبرة, المنطقة التي بنينا بيتنا فيها ها هي تقصف, سأضع خوذتي على رخام قبر جدي و أذهب.. هل سينجو الموت مني هذه المرة؟

أجرة

هنالكَ امرأة تهيل على طفلها بالقبلات ثم تتشابك أصابعها مع أصابع زوجها.. تهرول بعيدا عنهما, تصعد السيارة و لا تنظر إلى الوراء, سحبتُ كتبي و أخليتُ لها المقعد, التصقَ وجهي بالنافذة, كدتُ أرى يد طفلها المرتعشة و هي تلوّح لها مثل فالس الزهور في آخر أيام الخريف.
كانت المسافة بيني و بين السيّدة قصيرة جدا, مسافة حقيبة يد و دموعٍ تكابد الكتمان, لمحتُ في عينيها بريقا غامضا يتموّج و ينطفئ فجأة. أعطيتُ السائق أجرته, في منتصف الطريق أعاد النقود إليَّ و قال ” النقود مزيّفة “, دُهشتُ و قلتُ ” كيف, هذه نقود حقيقيّة “, قال ” مرّ عليها سنة, لقد تغيّرت العملة “. قفزَت إليّ الأفكار سريعا قبل أن أتفوّه معه بكلمة, تساءلت ” هل غبتُ عن زمن المدينة سنة لدرجة أن العملة تغيّرت و أنا لا أعرف ؟ “.. سوف أنتظر دفع أجرته بعد أن تدفع السيّدة. وصلنا معبر رفح و السيّدة لم تدفع الأجرة بعدْ. توّقفت السيّارة, لم أنزل, كنتُ في حيرة من أمري, العملة التي بحوزتي مختلفة عن عملة المدينة.. لا لا ربما عن عملة هذا السائق فقط؟ و من يدري؟! لماذا لم تدفع السيّدة الأجرة؟ ربما هي مثلي محتارة؟. نظرتُ إليها بذهول صاعق, التقت عيوننا مع بعضها, لم نتكلّم, دوّرت كفها في الهواء الموازي لصدرها, فحرّكتُ حاجبيّ إلى الأعلى كتعبير عن تعجّب كبير !! . قالت السيّدة بعد صمت الذهول ” لا يمكننا ترك السائق بدون أجرة “, قلتُ ” و ماذا نفعل.. المعبر أمامنا مفتوح و هذه الساعة الأخيرة من مدّة فتحهِ ! “, قالت ” لنعود من حيثُ أتينا “