القتلة السعداء

ذهبنا إلى الغابة لنبحث عن شجرة الميلاد
و حين وجدناها، تحلقنا حولها و غنينا
كانت أغنية عن الترولز
رقصنا لاخافتها و ابعداها عن المكان
قطعنا الشجرة و ربطناها بحبل و جررناها
وضعناها في البيت ترتاح ليومين
في اليوم الثالث نقلناها إلى الصالة
بدأنا بتزيين جذوعها الخضراء.. علق كل واحد منا نجمته المفضلة و علقت أنا كراتي الفضية اللامعة.
جلسنا نتناول القهوة و بسكويت القرفة
كانت الشجرة المزينة تبدو لي مثل قتيل أحسنا تزيين قبره..
يا لنا من قتلة سعداء
حسنا لا دعٍ للشاعرية
غدا سيغادر ستيفان البيت
و يعود متنكرا على هيئة بابا نويل و يضع هدايا تحت ظل الشجرة الذي صنعته النجوم و الكرات الفضية.
سيصرخ الأطفال حين يعود ‘دائما تخرج لشراء الجريدة و يأتي بابا نويل في نفس الوقت.. العيد القادم لن نسمح لك بالخروج لشراء الجريدة’.

تقطيع الجبن

تماما تحت مطبخي، تكون غرفة نوم جاري..
ممنوع أن يصدر مني أي صوت مزعج،
ممنوع أن تحتك الصحون ببعضها
ممنوع أن تتحرك الملاعق و الشوك
ممنوع أن أزيح الكرسي
ممنوع أن أفتح الثلاجة
كل شيء ممنوع عندما يعود ذلك الجار من عمله
إنه مجنون تماما و في هذه البناية يجب احترام المجانين.. هذه حكاية لا تعجبني
مرة قطعت الجبن فسمعت ضجة مرعبة تحدث تحت قدمي
عرفت أنه قد سمع صوت التقطيع
فوقف على الكرسي و دق السقف بعصا المكنسة
كان ذلك غير طبيعي
منذ أكثر من سنة أعيش في هذا المكان
و فقط اليوم التقيت به، كان خارجا من شقته،
رأيت أكداس البريد في مدخل شقته المضاءة..
لم ينظر إلي. كان يجر حقيبة سفر كبيرة.
تركت المصعد له و عدت إلى البيت بسرعة
شغلت أغاني بويكا و بدأت بجلي الصحون و خبطت الأرض بدون قلق.

شانشيلا

وقفت تحت الطوابق الأربعة, هناك حيث لا يدرك المرء أنه و ببلاهة يراقب شبابيك بيته, و كأنه ينتظر رأس إله ما أن يطل منها. أخرجت من حقيبتي خارطة المدينة, تأكدت بأنني في المكان الصحيح, مشيت قليلا باتجاه العمارة, و توقفت لأتأكد مرة أخرى من رقم الشارع كما هو محدد على الخريطة.. و كي لا أضل العنوان مثلما حدث يوم أمس, فقد علّمت كل شيء: لون صندوق القمامة الأزرق, الشجرة التي يتدلى منها خيط بني سميك ينتهي بكرة صوف صغيرة, الحذاء الذي لا يتزحزح عن حافة بلكونة الطابق الثاني, الدكان الذي يمتلكه عراقي شاب, و صوت الموسيقى الذي لا يتوقف في الحي.  توجهت إلى البوابة و طلبت المصعد فورا, كان اسمه مكتوبا بجانب الأكرة, فتحت باب شقتي, هل يحق لي أن أدعي بأنها شقتي؟, لأسباب غريبة سوف أكره كل شيء و أتوقف عن ادعاءاتي المحتملة بخصوص الشقة و المدينة بأكملها..

خلعت حذائي و دسسته بقدمي تحت السرير, و كالعادة كانت الأغاني تنبعث بإصرار من الكمبيوتر, لم أغير ملابسي, ذهبت إلى المطبخ, كانت طاولة الطعام تختفي تحت أكداس من الورق, فواتير و مجلات, و الأكثر كانت بطاقات بريد بلغات لا أعرفها من أشخاص ربما أصدقاء حبيبي و ربما نساء كان يكاتبهن في فترات متقطعة من مراحل العمر و الجنون. صنعت لنفسي كأس شاي و وضعته في زاوية صغيرة من الطاولة أفرغتها لتكون لي, و كأنني بذلك أحدد ماهيتي أنا العاشقة و أزيح البطاقات الحميمية نحو الماضي و أتقدم بكأس الشاي للحاضر و أمضي إلى الخلود. كنت أفكر في أمور أهم من تلك الزاوية الصغيرة, بدون شك أننا نحب بعضنا بسعادة, و لكن ما الجدوى من حب يحدث في فوضى و قذارة؟.

كنت أراقب حيوان الشانشيلا النائم في قفصه, لماذا يحبه و يحترمه حبيبي لدرجة أنه غضب مني عندما لم أناديه باسمه, نظر إليّ بطرف عينيه و قال “هل يعجبك أن يناديك الناس بدون اسم؟”, في تلك اللحظة فكرت بأنه أحيانا من الجميل أن لا يكون لنا أسماء, و في نفس اللحظة فكرت بأنه ليس من المنطقي أن يحتج شخص فوضوي على تنكير حيوان يحبه!. الفوضى تعتني بالأخلاق من منظور حاد جدا. الإنسان الذكي هو الذي يستطيع العيش في فوضى دون الحاجة إلى تنظيمها. دائما كنت أبدي اعتراضي على طريقة حياته, أو بالأحرى على وضع الشقة المزري, يجب أن تذهب كل هذه الملابس إلى القمامة, ملابسه التي تنتفخ في الخزانة و تتدلى من أطراف الكنب في الصالون و ترتمي كالجثث على طاولة المكواة.. مرة و أنا أجلي الصحون, جاء إلي و صاح بدهشة “يا الهي لقد جليت الكأس المزخرف؟”, قلت “أجل و ما الغريب في ذلك”, و تابعت الجلي, قال “استخدمت هذا الكأس منذ عشر سنين, و من يومها لم أنظفه و لم أستعمله”, كان يقول ذلك دون أن يظهر عليه علامة حزن أو امتنان, استمر في التحدث عن الكأس حتى بعد أن أخرج رأسه من النافذة ليدخن سيجارته كي لا يمتلئ المطبخ برائحة الدخان, سمعته يقول بأنني لتو نظفت قطرة نبيذ اختمرت في قاع الكاس عشر سنين. فيما بعد سألته بجديه “متى بدأت تمارس الفوضى”, قال بتردد مراعيا شعوري القبيح تجاه ما أكتشفه عنه ” احد الفلاسفة الألمان قال ان الانسان اذا استمر في ممارسة الفوضى لمدة سنتين, فانه سيعيش بقية حياته في فوضى مستمرة”. لم يعجبني ما قاله, و جلست على الكرسي محتدمة, جلس قبالتي و هو يرمقني بنظراته و يقول بثقة “سيكون كل شيء على ما يرام”.

– لنتخلص من المجلات و الكتب و الملابس الزائدة

– أرجوك, إنها أشياء مهمة بالنسبة إليّ, أحتاج إلى فترة طويلة كي أتخلى عنها

اتصل علي قبل قليل ليخبرني أنه لن يتناول العشاء معي, سوف يبات الليلة في الاستديو. لم أخبركم أن حبيبي يعمل في مجال اللغويات و الصوتيات, يقضي معظم وقته تحت الأرض, هناك حيث بُني الاستديو و صُمم بشكل دقيق ليتلاءم و طبيعة العمل المهم الذي يشتغل عليه مجموعة لغويون, زرت المكان قبل أيام و دهشت بكم الهدوء الذي تصنعه الأقمشة الداكنة, نعم قلت تصنعه, لأن المكان تمشي فوقه سيارات و بالضبط فوق غرفة التسجيل مرسوم خط المشاة, و بالتالي تتضاعف الضجة فوق مكان تأكله العتمة و السكون, و لا بد من ابتكار طريقة تمتص الضوضاء و تصنع الصمت. مهمة حبيبي هي تحويل الكتب المقروءة إلى اسطوانات سمعية للأشخاص الذين يعانون من مرض “الديسارثريا”. الليلة سأتناول العشاء وحيدة فيما هو يسجل بصوته الرائع الكتب للمرضى..

كانت الساعة تقارب السابعة مساء, قررت أن أحسم الأمر و بدأت أدون على ورقة أخذتها من على طاولة الطعام ما سأقوم به في غياب حبيبي. تخلصت من الأغاني التي تستفزني و أغلقت كمبيوتره المجنون, ثم رحت ألملم الكتب المتناثرة على أرضية الصالون, و ضعتها في صندوق كرتوني كبير, كانت الكتب أكثر بكثير مما توقعت, إنها تحتاج إلى خمسة صناديق كبيرة, جمعت الكتب حسب أحجامها و صففتها قرب المكتبة, أخذت مساحة لا بأس بها.. انتقلت إلى الملابس, كومتها باهمال في أكياس و رميتها خلف الكنب, ثم أخذت المكنسة الكهربائية و نظفت الشقة.. لقد دأبت أن أرتب الشقة بقدر كبير حتى عودته من الاستديو, و مع ذلك لم أنته من شيء, فأنا قد بدأت خلال ساعات قصيرة في التخلص من فوضى تجاوز عمرها عشر سنين. جلست على حافة سريري, تأملت ما قمت به, الشقة مخيفة, يا لها من كارثة أن أعيش في مثل هذه الشقة و بوجود حيوان بدأت تنشأ بيني و بينه عداوة لا معنى لها. مشيت على رؤوس أصابعي بين حشرات بحجم أظافري و ذهب بلا احساس لأستحم, تركت جسدي تحت الماء الفاتر, كنت أغتسل من الفوضى, و أغتسل من حبيبي, و أغتسل من حيوانه البذيء, ها هو القش متناثر في المغسلة أيضا, ما الذي أتى به هنا؟ هل كان طليقا قبل قدومي يعيش بمساواة و حرية جنبا إلى جنب مع حبيبي؟ هل حبسه في ذلك القفص حرصا عليّ؟ لا أعتقد أنني أشكل حرجا و أهمية لدى حبيبي بالعيش مع شاتشيلا, إنما السبب كان في أن الحيوان أصبح عجوزا و لا يتحرك إلا عندما يأكل!.

في الواقع انتقلت من مدينة إلى أخرى, لأجل العيش مع الرجل الذي أحب, لم أنتقل لأتبنى حياته, و أقضي أيامي الجميلة معه أتذمر و أقنعه بالبحث عن شقة جديدة. كانت علاقتنا قائمة على الفهم العميق للوحدة, كلانا يتفق على أنها مصدر بؤس و عراك لا يجدي مع الذات, على الرغم من ذلك فكلانا عاش – بشكل و بآخر-  وحيدا في الماضي, كان له حبيباته, أو نزيلاته, يستخدمهن لدفع الوحدة عنه, و لسبب غامض يرحلن الواحدة تلو الأخرى.. لا ليس غامضا, اكتشفت أن الكتب و الأفلام و القش و الكمبيوتر و الملابس هي السبب في وحدته. أما أنا فكانت الحاجة إليه هي سبب وحدتي. في الأيام الأخيرة كنت أبكي كثيرا عندما أستيقظ و أجده إلى جانبي, كان يلح عليّ أن أقول شيئا, على الأقل قولي”لا شيء”, و لكنني في النهاية توقفت عن البكاء. لاحظت أن دموعي التي تسيل على كتفه كل ليلة تتحول إلى دمامل تشبه الصدف, أصبحت كتفاه صدفتان كبيرتان. كان يريدني امرأة عادية, غير مرتبة, لأنه ببساطة لا يكترث بالترتيب, و تجاربه مدته بفرضيات و نتائج لا نقبل بها نحن الذين نتغير بخوف و ببطء.

في الصباح نظفت طاولة الطعام بحذر, وضعت المجلات و الفواتير في صندوق, بينما وضعت بعناية بطاقات البريد في حقيبة خاصة.

إنني أراه الآن من نافذة المطبخ, عائد من الاستديو. لا أعلم إن كان سيحزن عندما يرى شانشيلا نائما بين القش إلى الأبد؟.. خلع سترته و ضمني بقوة, كانت كتفاه الصدفيتان تلمعان. كان يبدو عليه الإرهاق, لم ينتبه إلى التغييرات التي حدثت, ذهب مباشرة إلى السرير و قال بصدق ” سأنام قليلا و بعدها سوف نبدأ بتنظيف الشقة”.

قِصّة الشَّعر الذي تحوّل إلى صندوق خواتم

كان صباحا باردا.. كنت في طريقي إلى البيت, استوقفني منظر عصفور يقف وسط الطريق, نظرت إليه مندهشة, لأنه لم يخاف مني و لم يطر بعيدا عني, اقتربت منه بتوجس, تعمّدت أن أصدر صوتا كي أربك الطائر و أجعله يبتعد. كان وجود الطائر معي في نفس الطريق أمرا مثيرا للفضول. و حين لم يعد بيننا مسافة, مددت يدي للعصفور, فوجئت أنه بدأ يحك جناحه بأصابعي, حملته بين يدي, كان صغيرا جدا, و يبدو أنه لتو فقس من البيضة. حدجت بصري حولي, نظرت إلى الأشجار, تفحصت الأغصان,  لم أجد طيورا, و لم ألمح  أي عشّ.كان غريبا أنني لأول مرة أخلع حجابي و أضع العصفور فيه, و كانت تلك أول مرة أمشي في الشارع و رأسي غير مغطى, كانت النساء المحجبات ينظرن إلي و يتهامسن عني, لم أعير أحدا اهتمامي, كان العصفور أهم من أي شيء آخر.
دخلت غرفتي, كان العصفور يرتجف من البرد, لم أعرف كيف أتصرف في تلك اللحظات الحرجة, شعرت أن حياتي سوف تتوقف إذا فقدت العصفور, و لوهلة علقت حريتي على أجنحة ذلك الكائن الصغير, و ربطت آمالا سريعة في ريشه.. فكّرت كيف تتغير حياتنا في دقيقة؟ كيف نصاب بالجنون بسبب تافه؟. و لكن هل العصفور شيء تافه؟. تراجعت عن إعطاء العصفور قيمة تافهة, و منحته دفئي, لقد تخليت عن معتقداتي لأجل كائن صغير تافه.أوه, ها قد عدت لإذلال العصفور, حسنا, لنتفق أن قيمة الكائنات ليس بحجمها و ليس بنوعها. و حتى ليس بجنسها. صديقتي نداء كبيرة و قوية, و لكنها تافهة, هنا أنا أعتبر العصفور أهم من نداء.
تركت العصفور يدفأ في حجابي, و وقفت أمام المرآة, كان شعري ناعما و لونه الأسود جذابا و مثيرا. ذات مرة نصحتني نداء أن أقصه قائلة بجدية ” قصيه كي لا يتدفأ الرجال به”. لكنني لم أفعل ذلك, فأنا أحب شعري طويلا, منسدلا على كتفي مثل نهر رقيق.كنت واقفة أمام المرآة, أفكر في أشياء كثيرة, و بينما كنت أغرق في أفكاري أكثر فأكثر, كانت أصابعي تدوّر شعري, بدا شعري مثل صندوق خواتم, ملولوا و مبعثرا, لفت انتباهي شكل رأسي في المرآة, بدا مثل خروف جائع, ضحكت بصوت عال حين بدت أفكاري تنصب على شعري, و فجأة أطلقت ضحكة هستيرية مجنونة, قفزت إلى رأسي فكرة الخلاص, سوف أفرغ صندوق رأسي من الخواتم, سوف أقص شعري, و أصنع منه عشا للعصفور الذي يتجمد من شدة البرد.
وضعت كومة الشعر عند قدم سريري, و وضعت العصفور في مكان قريب منها, ابتعدت قليلا كي أترك للعصفور حرية التصرف, راقبته من بعيد, بدأ يحرك أجنحته كأنه يقول لي “شكرا”, ثم بدأ بنقل الخواتم خاتما خاتما, و هكذا بنى لنفسه من شعري عشا عند قدم الطمأنينة.شعرت بأنني فعلت شيئا عظيما, فقط لأنني أنقذت حياة عصفور.
بعد أيام, تكونت صداقة قوية بيني و بين العصفور, لم أكن استطيع أن أخرج من البيت بدونه, و طبعا كنت أخرج و رأسي مغطى بشال, أما العصفور, فكنت أضعه في حقيبة صغيرة.و في يوم ثلاثاء جميل, تحوّلت حياتي إلى جحيم, لقد مات عصفوري بين خواتمي. دفنته في إحدى مزهريات البلكونة,  صارت الورود تتفتح من ريشه , و صارت فراشات ملونة و سعيدة تطير من جثته الصغيرة. أما أنا فلم أترك تلك العادة الغريبة, كنت أحب أن ألَوْلو شعري. بعد أشهر قليلة, طول شعري و فوجئت بأنه مجعدا و تقرر بأن يصير رأسي صندوق خواتم إلى الأبد.

قصة التيار الكهربائي و الطائرة الخائفة

التيار الكهربائي غادرنا منذ ساعات طويلة, إنه رجل المواعيد المملة, الأسلاك تمتد من عامود بعيد و تعبر في شوارع طويلة و ملتوية كي تصل إلى بيتنا, أحاول أن أرصد نقطة بداية سلكنا الكهربائي, لكنني سرعان ما أتراجع عن ذلك, يتفشى في داخلي رعب موحش, ألتفت إلى جهة الشمال, ينفجر في رأسي لغم أبيض.. أشيح بوجهي عن كل الجهات و أخبئه بين ذراعي, مثل عاشق فقد رغبته في الحب. ثمّة كائنات ضوئية تراقبني من تلك الجهة, أعمدة مرتفعة جدا, تختفي رؤوسها في غيوم كثيفة و تتنكر بزيّ النجوم, سيارات لا تتوقف عن الحركة مثل الكترونات تدور حول نواة متوهجة, بيوت رائعة و عالم آخر غارق بالنور..
كيف أغمض عيني عن ذلك العالم الأسطوري؟, لطالما لجأتُ إلى تأمله بحجة أنني خائفة و أقول بضعف أمام نظرات الدهشة لأخي الكبير ” هذا يا الله.. هذا الذي يخيفني دائما “, الضوء يقمعني, أخي لا يكترث لأخته الهبلة, حتى إنه لا يكلف نفسه بضحكة و لو ساخرة يرميها لي و يتركني!.
في هذا الصيف بالذات, أنا أحنُّ كثيرا للضوء, احتباس حراري يجمع العائلة مع بعضها البعض, قبل مغادرة الكهرباء, يتراكض الصغار إلى الوسائد و ينقلونها إلى سطح الدار, أسمعهم يهللون على الدرج, أخي الكبير يحمل أحجار النرد و يرتقي الدرج ببطء و هو لا يتوقف عن صب الشتائم على شركة الكهرباء و على عالمي المضيء.. أظل متربصة في غرفتي, أنتظر أن يخلو البيت منهم, يتسلل إليّ من الشباك صوت جارنا, يقرأ سورة النور و يدعو بخشوع سخي للصابرين, ثم تتناهى إليّ أصوات ضحكات بذيئة تنطلق من أشخاص مجهولين, أعتقد أو أكاد أجزم أنهم كانوا يتنصتون على جارنا!, هنا الأدعية صارت تتميّز بلون الانتماء الوطني, و ربما تجر أصحابها إلى السجن, لن أحذر صوتي.. سأظل أقول ” هذا يا الله.. “, و لكن هذه المرة أتابع ” هذا الذي أحتاجه ” .
بعد أن يذهبوا إلى سطح البيت, أخرج من غرفتي, أفتح الشبابيك, أطمئن على وجود التيار, بقيت دقائق معدودة كي يغادرنا, أحمل وسادتي و ألقي نظرة على النيون ثم أركض على الدرجات المؤدية إلى السطح.. أقذف وسادتي على الصغار, فيبدؤون لعبتهم المفضلة, كرة الوسائد, يضج السطح بوسائدنا, السماء ترانا بوضوح كأنها تشاهد فيلما كرتونيا, تصيح أمي بقلق على وسائدنا, نطمئنها بأن الخيوط قوية و لن تتمزق من لعبتنا, كان لعبي معهم وسيلة للتخلص من الانتظار و الضجر, التيار غادر بيتنا و لا بد أنه الآن حل في بيت آخر, ثم يغادر هذا البيت ليحل في بيت آخر و هكذا.. يا له من رجل لا يستقر و لا يقيم .
تشاجرنا على أماكن نومنا الصغيرة, كنتُ مع العائلة بين اليقظة و الصحو, اخترتُ أن أنام أمام عالمي المضيء, رأيتُ عيون الصغار تحيطني بالخوف, فلا أحد منهم يستطيع النوم أمام مستعمرة تجثو قبالة بيتنا, و لا يفصلنا عنها سوى شارع واحد !, إنها عالمي المضيء الذي يلهمني القصص و الأشعار, عالم مجنون يقتلنا و يقتات على لحومنا, لكنني أشعر بانجذاب غريب يشدني إليه, خيالي العميق يصبغ الأشياء و الأرواح بلون السلام, المستعمرة تتحوّل إلى كوكب آخر يتدوّر في عيوني و يُخيّل إليّ أنه كرة شمعية تذوي ضياء, في الوقت الذي أطفأ أبي شموعنا كي ننام, فلا ننام.. نذهب إلى أحلامنا و أفكارنا المتواضعة.. نشتهي عودة التيار الكهربائي, فالبيت تحتنا يختنق عتمة, و صخب التلفاز صامت, لا أغاني و لا مسلسلات, و كتبي كفيفة مثلي.. قفز أخي الكبير من مكانه, فجأة, وقف في منتصف السطح, وقف الصغار متلهفين كأنهم كانوا ينتظرون أحدا أن يخترق صمتهم, قال قائدهم ” عودوا إلى أماكنكم و استلقوا على ظهوركم هكذا .. “, استلقى على ظهره و تابع ” أترون كم نجمة في السماء “, صاحوا بغضب ” كثيرة.. و لا نريد أن نعدّها أيها الأحمق “, قال ” لا لا, أريد منكم أن تلتقطوا الطائرة من بين النجوم.. لقد لمحت طائرة اسرائيلية تختفي و تظهر.. هناااااك “, ضحك الصغار و راحوا ينقبون عن الطائرة بين أكوام النجوم, راقتني لعبتهم و رحت أفتش عن الطائرة, تعثرتُ بأضواء أخرى, شُهب و قطيع خرفان و قبعات و أصدقاء مضيئون يمدون لي ألسنتهم ثم يختفون خلف النجوم.. لم أجد الطائرة و ذهبتُ إلى متعة العد, كذلك فعل الصغار بعدما اكتشفوا خدعة قائدنا, فلم تكن طائرة في السماء, لكنه أقسم و هو يشير إلى نجمة كبيرة أنه رآها, و أن الطائرة ارتدت النجمة لأنها خافت من عيوننا..

كأنه العدم

تأخرتُ في نومي.. لماذا تأخرت؟. لم يكن الحلم جميلا, لا شيء فيه يدعو لأن أستيقظ في وقت متأخر من الصباح, ليس ممتعا حتى إنني نسيته و لا أذكر ماذا كان هو؟. هل رأيت رجلا رائعا أعرفه؟. أحاسيسي تغادرني, لا بأس فأنا منذ الليلة الماضية أتنبأ بضجري, لذلك نمت أكثر من مرتين في هذا النهار التعيس, و في كل مرة كنت أنهض من نومي بملل, تضيع عيناي في فراغ خشن, أشعر بالحر فيرشح العرق من جسدي. يلهث تحتي إسفنج سخيف و سرير أبله.. هل حقا حلمتُ هذه المرة؟. أحس بدوار خبيث يُحوّم في رأسي.. أسترخي و أدسّ رأسي بين الوسائد, بطني يضغط على الإسفنج.. هواء ملس لكنه ماكرا يهب بغتة من النافذة.. له رائحة صدأ جائع, أقشعر و أودّ لو أتقيأ كل روائح العالم..
النومة الخامسة كانت بعد الغروب بساعة, فتح الجمود عيني, لا أفهم لماذا لم تسأل أمي عني؟؛ ربما ما يزال الحزن يمنعها من أن تخترق وحدتي و صمتي, هي حزينة من غموضي و حزينة على مستقبلي سيء التوقعات. سنة كاملة من العزلة في غرفة أشبه بكهف معتم يخاف الجميع دخوله.. بغباء شديد رجوتُ أختي أن تترك الغرفة لي و تجد لها مكانا في غرف البيت الأخرى..
تدلت ساقاي من حافة السرير, كان الإرهاق يستولي عليّ. صوت المروحة مزعج جدا, يهدر في أذني مثل طائرة تحلق فوق البحر.. الأصوات خائنة. لامست أصابع قدمي الأرض, وجدتني أمشي ببطء و أحس بفأر عجوز يسعل في صدري. المسافة بيني و بين الباب تمتد, كلما اقتربت منه فإنه يبتعد أكثر.. أردتُ أن أعود إلى سريري لكنه أيضا يبتعد عني, كأن صحراء شاسعة تحاصرني, الأشياء تتخلى عني و تبتعد..
سقطتُ على الأرض و قررتُ أن أنام مكاني..
لا أدري الآن: هل أنا أكتب قصة ليست حقيقيّة؟ أم أنني نائمة و أحلم؟!.

رعشات مُطاردة

الصمت يصفر في فراغ الشقة, الرياح الخفيفة تقتحم الغرف و الصالون و المطبخ بهدوء لص خبير يتسلل من الشبابيك الخلفية, أمشي في الممر المؤدي إلى الحمام, صورة جدي المعلقة على الجدار تمشي معي فيخيل إلي أن أجيالا قديمة تراقبني و تلاحقني, عند المنعطف الدقيق بين الممر و عتبة الحمام كانت لوحة مزدحمة بالنساء تنظر إليّ بملل مجهول. دخلتُ الحمام و أغلقت الباب عليّ –مع أنه لا أحد موجود في الشقة غيري- , فتحت الصنبور و بدأت المياه تتدفق من فمه و تُغرق البانيو بشراهة لا أفهمها..
شرعتُ أتعرى قطعة قطعة, جسدي ما يزال ثابتا ببلاهة, فقط أصابعي كانت ترتجف كلما لامست لحمي بالخطأ..
ثمة انتحار مخنوق ينتظرني!
فتحت الدش, انهمرت المياه منه كأنه غيمة ترشقني بالمطر, ناعم و مجنون يمشط الماء شعري.. يسيل على كتفي مثل شلال أمازوني مخيف..
الآن أنا أغتسل من حياتكم, أزيل عن جسدي آثار قبلات و لهاث أحمق, الصابون يداعبني, تتشكل فقاعات هواء و تتطاير في فضاء الحمام, تحط على أنفي.. أتنفسها..تنفجر ضحكا و تختفي.. أصبحتُ ألمع مثل سطح بحيرة فيروزية..
مثل سمكة دولفين أغطس في البانيو, الضوء الساقط من السقف يسبح معي.. مياه ضوئية شفافة خالية الذهن, لا تفكر بنميمة أو غيبة عن رجال و نساء و جنود و مدينة و اجتياح..
عارية من أسمال العالم المسالم و المتمرد, من عقد السياسة و انهيار الاقتصاد, من الكرة الأرضية و دوران سكانها حول شمس مؤقتة.. أنزلق إلى تحت.. نبضاتي القوية تصنع موجا متوحشا.. وحدها موجتكَ أليفة و لا تستطيع افتراس شيء مني, اتفقنا على الشاطئ ماذا سيكون مصيرها, خطفتُ الموجة من البحر.. البحر القريب من ميناء غزة, أخذتها معي في زجاجة إلى غرفتي, و صرتُ أطعم الموجة و أعتني بها حتى إذا كبرت و فتحت المعابر تأتي إلى غزة و يحين دوركَ في حضانة الموجة, أنتَ الأب و الأم لها, أنتَ الأخ و الأخت و ابن الأخت..أنتَ للموجة أنتَ, فأين تركتها من بعد ذلك الاتفاق؟.. يومان أو أكثر من الاحتلام و الكذب الشاعري, الوهم مثل خيوط العنكبوت الواهية, و أنا.. أنا الآن أنزلق تحت الماء, أجدف بين سفن البرتقال و المشمش, أحبكَ أو أكرهكَ, لا يهم, سيان؛ لأنك منشغل و لأنني لا أعرفكَ..
مازلتُ تحت.. البساتين تغرق, ترتوي الأعشاب و تهذي ألف مرة.. ما هي النشوة؟ الماء سر الليل و النشوة رقص يجيد الاستمرار في كل شيء.. أبحر في غموض المرأة, المرأة التي تنهض من سريرها بضجر و تزيح الستائر عن نوافذ كهفها النعس.. تجفف شمسها الداخلية بكسل لذيذ..
الحمام يطفح بالمياه حتى سقفه, النافذة الصغيرة و الوحيدة تكاد تتحطم من اندفاع المياه في كل اتجاه.. ملابسي تسبح و قطعة الصابون تذوب و تتلاشى.. شعري يتحرك مثل سكران يحاول أن يسير إلى بيته في منتصف الليل.. الرعشات المطاردة, الهذيان و الدهشة و ذهولي من جسد أسمر يعيد إلى ذاته الحروب و يكوّن أرضا لدنة مضمخة برائحة الوطن و النعناع.. حقا انني لا أستوعب انتحار هذا الجسد !!