ذكريات غزّية قبل الكارثة

قبل أسابيع قليلة من المأساة الفلسطينية الكبرى في غزة، استأجرتُ مع صديقتي سيارة “فيات” صغيرة بالكاد تتسع لنا، و انطلقنا نتجول في ضواحي روما الساحرة. كنت أشعر بكل نفس من هوائها وكأنني أستوعب سرّها الصغير، في عالم مدهش مليء بالحياة و التفاصيل الجميلة.

لم يخطر ببالي آنذاك ما يخبئه الغيب. دخلنا بلا تخطيط دير القديسة مريم في بلدة غروتافِرّاتا، وهناك تساءلنا: لماذا كان كل من يمرّ بنا يرمقنا بنظرات غريبة ثم يمضي؟ كنت متأكدة أنني لست المرأة الوحيدة الحامل في تلك القرية، فما السبب إذن؟ كادت فكرة أن الأمر يخصني شخصيًا أن تتسلل إلى ذهني، حتى مررنا عن رجل مع زوجته جالسين في فناء الدير، همس الرجل بصوت واضح : «يا للجمال». عندها فقط أدركنا السبب: دخولنا بملابس قصيرة كان ممنوعًا، ولهذا كانت تلك النظرات المحيطة بنا. شعرنا حينها بمزيج من الخجل والدهشة، وابتسمت في صمت و غادرنا الدير فورا.

اليوم، وأنا أستعيد هذه الذكرى، أشعر أنها كانت آخر لحظات عادية بعيدة عن أخبار غزة، مدينتي الأم التي كانت تنعم نوعا ما بالطمأنينة و فيها بشر و بيوت و شوارع و مدارس و أسواق و مستشفيات و أشجار..

لكن بعد السابع من أكتوبر تغير كل شيء. صار عقلي يربط بشكل تلقائي بين لحظاتي الشخصية والكارثة الجماعية. عندما أنجبت طفلي، كان أهلي ينامون ليلتهم الأولى في خيمة برفح. عندما التقيت صديقة قديمة على العشاء، كان مسجد قرب بيتنا يُقصف. وعندما قرأت “معرض الجثث” لحسن بلاسم، كانت الهدنة تنتهي لتعود الحرب من جديد.

و كأن ذلك قدر الغزي الذي عاش الحرب أو الفقدان أو التهجير. فالذاكرة لا تفصل بين حياتنا الخاصة وما يجري حولنا. الذكريات الشخصية تصبح خيوطًا تتشابك مع الأحداث الكبرى، كأنها جزء منها.

لا أحب أن تُعلَّق ذكرياتي، السعيدة منها والتعيسة، على جدار الإبادة. لكن لا مهرب من مدينتي الأم، تلك التي تُقتَل يوميًا. لا مهرب منك يا غزة.

Leave a comment