عندما كنت في غزة، لم أعرف مدينة في كل العالم غيرها، كانت كل شيء بالنسبة إلي. لم أحبها يوما، كانت مدينة مليئة بالاجتياحات و الشهداء و الجرحى، حتى تعقدت الأمور و أصبحت مدينة محاصرة، ثم انتهى الأمر بها و صارت مدينة الحروب.
كنت أهرب منها في الرويات و الأفلام التي كانت تأخذني إلى العالم. و لحسن الحظ كان لدي هروب آخر: البحر. كان بامكاني رؤيته من بيتنا. كانت المسافة بيننا ربع ساعة مشيا على الأقدام. البحر كان يقع في جهة الغرب. في الصيف أزرق و هادئ و لطيف، في الشتاء أيضا أزرق و لكن هائج و بالامكان سماع صخب تلاطم الأمواج العالية. كانت رؤية البحر ملاذا للأحلام. حين كنا نتمشى على الشاطئ في بداية كل خريف، بعد انتهاء عطل الصيف، كنا نتسابق في البحث عن قطع نقدية ضائعة و حين نجد عملة غير الشيكل، نصيح بجنون ‘هذه من وراء البحر، أقسم أنها من نيويورك’.
أما في جهة الشمال، كانت مستوطنة سديروت تراقبنا طوال الوقت، لم أخف منها يوما، بعكس أطفال الجيران، كانوا يقولون ‘اذا نظرت إلى المستوطنة، فسوف يصيبك العمى لأنهم يطلقون رصاصا صامتا على عيوننا كي ننساهم’. كنت أحب مشاهدة الأضواء في ليالي الصيف عندما كنا ننام على سطح البيت بسبب الحمّ. تلك الأضواء كانت تدفعني إلى الحلم بطريقة غريبة، كنت أذهب في أفكاري نحو شوارع المستوطنة و تخيل بيت جدتي الذي دمر و اختفى كليا.. حلم العودة.. آه تلك المستوطنة اللعينة أضاءت ليالي الصيف المعتمة بسبب انقطاع التيار الكهربائي عنا كل ست ساعات. لقد أضاءت كرهي للعالم. المستوطنة، الصيف، الأضواء، جدول الكهرباء. حقا يا له من سطر كريه.