خط أزرق بعيد

كنت أظن أن صعود السفينة الضخمة المكتوب عليها بخط أحمر عريض “Viking” سوف يضاعف خوفي من الماء العميق. تشكل خوفي الأول من الماء مذ كنت في الصف الثالث، كان يأخذنا أبي إلى البحر في عطلة الصيف، كنا نخرج في وقت مبكر جدا، لدرجة أنني كنت أشعر بأننا ذاهبون لاصطياد غنيمة ما.
هناك، حين نصل البحر، كان القمر واضحا بالرغم من الضباب الغامض الذي يلفه في إشارة لانتهاء الليل. كان يتركنا أبي على الشاطئ نصف ساعة، بحيث يختفي كليا وراء خط أزرق من الماء، في البداية كنت ألاحق رأسه المبتل وهو يتحرك قدما مع جسده بين الأمواج، ولكن فيما بعد أصابني الذعر من فكرة أن البحر دائما يأكل ذلك الرأس المبتل ثم يلفظ شخصا آخر تسيل من ذراعيه أسماك صغيرة تتقافز وترتمي عند قدمي.
حين يعود أبي من وراء ذلك الخط البعيد، نركض إليه نحن أبناءه المتلهفين لشيء لا نعرفه، يلتقط كل واحد منا اصبعا من أصابع يديه الخشنة والطويلة، وبدوره يمشي بنا متجها إلى البحر ونحن نتبعه متشبثين بأصابعه. أنظر إلى اخوتي فألاحظ لمعة الفرح في حدقاتهم وأجسادهم يأكلها البحر، بينما أنا أتشبث أكثر فأكثر في اصبع أبي..
طوال السنين التالية، أكتشف أن البحر مجرد اقتراح مؤقت للتخلص من الخوف.
صرت ناضجة ولم تعد أصابع أبي تحتمل أيدينا التي درست الهندسة والطب والشعر، فأصبحنا نذهب إلى البحر بأنفسنا ودون ذلك التوقيت المبكر الذي لم أحبه يوما. لأول مرة يقنعني اخوتي في الذهاب إلى البحر، تلك المرة لم تكن لنطعم أجسادنا للبحر ونعود مثل أسماك مالحة تحتاج إلى التجفيف، كانت المرة الأولى التي دفعوني بها إلى سفينة صغيرة لأحد الصيادين، شاب يرتدي شورت بنيا، قرر أن لا يصيد ذلك الشهر ويستخدم سفينته كوسيلة ترفيهية لروّاد البحر في العطلة الصيفية.. حسمت الأمر سريعا على الشاطئ وصعدت السفينة، كانت صغيرة جدا، وكان يبدو أنها جيدة للصيد ولا تصلح لغير ذلك، جلست على المقعد الطويل بين أختي وأخي، الصياد، أقصد قبطان السفينة، شغل المقود وبدأت تبحر فينا.
كنت أنظر إلى الشاطئ بقلق شديد، لا سيما وأن كل شيء حولي بات أزرق، ولم أعد أر غير الموج وبعض الكرات الصفراء الطافية من شباك صيد كبيرة نصبها الصيادون وتركوها.. كانت السفينة ضعيفة مقارنة بقوة الموج، تهتز على الجانبين، وأحيانا يدخل الماء من المقدمة بشكل فوضوي كريه ومخيف.. إلى أن حصل ما كنت أخافه، مالت السفينة على الجانب المقابل لي، بحيث أصبحتُ مرتفعة عن الماء ولكن لم يدم ذلك دقائق من الذعر حتى فقدتُ قواي وأفلتت قبضتي السفينة، فانزلقتُ وانقلبت السفينة.. أكلني البحر.
لم أعرف كيف استطاع الصياد أن يستعيد وضع السفينة الطبيعي، وجدت نفسي في مقعدي وحولي اخوتي يضحكون على ثرثرات سخيفة، هل كنت أحلم؟. حين وصلنا الشاطئ، سمعت الصياد يهمس لأخي “كانت أختك ستغرقنا من الخوف”.
أما الآن، فأتذكر كل شيء وأبتسم بارتباك، وأحيانا أضحك فتلتفت إليّ العجوز الفرنسية وتقابلني بضحكة غريبة وتعود تتأمل البحر من النافذة.. حسنا، ضحكت لأنني كنت حزينة، كنت أتمنى أن يكون أبي معي في تلك اللحظة التي صعدت فيها سفينة الفايكنغ، كان جميع الركاب فرنسيين، كانت أصابعهم ناعمة ولم يكونوا بحاجة إلى الاختفاء مبكرا وراء خط أزرق ليعودوا بالسمك، ويبيعوه.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s