شاعرة بائسة وصانعة معجنات سعيدة

إنها المرة الخامسة التي أطبخ فيها, حسنا, لأكن صريحة و صادقة, كنت أجرب الطبخ, تحديدا طبخ الأرز.. تعلمت السنة الماضية أن أصنع الكروسان و السينابون و المعجنات بأنواعها, مع ذلك فقد فشلت في صنع فطيرة التفاح, كانت سنة مليئة بالتجارب الشهية, و حصل أن سافرت إلى السويد, ففكرت بأنه سوف يكون من الرائع أن أطبخ لأصدقائي بعضا مما تعلّمته. هناك, في بيت توفا, نسيت كل ما تعلّمته, لم أصنع لها شيئا, ذهبتُ معها لنتسوق البروكلي و عجينة فرنسية لا أذكر اسمها.. في المساء بدأت أشاهد توفا و هي تطبخ بطريقة المرأة الوحيدة و الذكية التي تعيش متعتها في مدينة علمية مثل لوند, حملت صحني و جلست قرب المكتبة الصغيرة الممتدة بجانب الباب, فيما توفا تنظر إلى متحمسة لرأيي في الطبق الفرنسي, هززت رأسي ببلاهة  و قلت “لذيذ..”, كنت أحمل تجاهها غيرة امرأة صغيرة من جارتها الخبيرة ستستمر لأيام!.

صاعدت جهودي في الطبخ و شرعت في قراءة الكتاب الأمريكي “متعة الطبخ”, و انتقلت لقراءة الكتاب الايطالي “الملعقة الفضية”, ثم تطور الشغف بي و شاهدت فيلم جولي و جوليا الذي يصور حياة امرأتان تثبتان قوتهما و هويتهما من خلال الطبخ, كنت قبل ذلك قد قرأت رواية لورا اسكابيل “كما الماء للشوكولاته”, حتى انغمست في المأكولات أكثر فأكثر, و تحولت من كاتبة إلى طباخة, نسيت القصص و الشعر. رحت أتبع الروائح المدوخة التي تنتشر بشكل جنوني في شوارع ستوكهولم, جربّت معظم المأكولات, و كنت لأضيع لولا صديقي السويدي, و هو طباخ ذو خبرة واسعة, كان يرافقني إلى المطاعم و يوضح لي مكونات هذا الطبق و ذاك. مرة أخفى لي صديقي مفاجأة و أخذني إلى مطعم في المدينة القديمة, جلست إلى الطاولة و لكن للأسف الروائح أفسدت مفاجأة الصديق السويدي, كانت رائحة المسخن و زيت الزيتون تقولان بصوت عال “نحن مأكولات فلسطينية”, لم أشأ أن أخذل صديقي و أبديت سعادتي و دهشتي في الأطباق الفلسطينية التي احتلت طاولتنا!. حتى الطعام يعرّف البلدان و يمنحنا هوية و شخصية خاصة, و يضفي إلى الأماكن و الأشياء رموزا ذات دلالات. فمثلا, بالنسبة إليّ, منذ أن قرأت قصيدة “إلى أمي” لمحمود درويش, أصبحت القهوة رمزا إلى الحنين إلى الأم و الوطن, أما الجبن و النبيذ فيقولان على لسان فتاة بمريول أنيق “أنا فرنسية”, بينما تأخذنا البطاطا المسلوقة إلى المطبخ السويدي الذي لا يخلو منها و السوشي إلى اليابان.

الآن أطبخ الأرز و أحاول أن أتذكر عبارة جميلة للكاتبة الأمريكية لورين كولوين, تقول في كتابها “كاتبة في المطبخ”, “وحيدة في المطبخ, لا شيء سوى حبة باذنجان”. و أنا أيضا وحيدة في المطبخ, و لكن يوجد كل شيء, إلا أنني لم أنجح في صنع طبق الأرز.. المقادير دقيقة, يجب أن أترك هذه المهمة لأمي, فالأمهات دائما مرجع بناتهن في الطبخ الجيد. سوف أعود إلى غرفتي و أكتب قصة بدلا من ذلك.

لا بأس في أن أكون كاتبة و صانعة معجنات في نفس الوقت.  أتخيل كيف كانت اميلي ديكنسون شاعرة و خبازة أيضا, تتفنن في صنع الخبز لعائلتها منذ أن أوكلوها مهمة تدبير المنزل, زد على ذلك أنها فازت بجائزة أمهرست للرعاة عام 1856.. يا إلهي, كيف لصاحبة الشِّعر البائس أن تنتج خبزا بكل تلك السعادة!.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s