الطريق إلى بلاد الفايكنج!!

كانت الساعة الثانية منتصف الليل, أجر حقيبتي خلفي و أنا أتمشى من زاوية لزاوية في قاعة الانتظار في مطار القاهرة, تعرفّت على امرأة مصرية تعيش في نيويورك و جلسنا لساعة نثرثر كأي غريبين عابرين التقيا في مكان غريب, بعد وقت قصير اكتشفت كلتانا أننا سنغادر على متن نفس الطائرة إلى أمستردام, ودّعنا بعضنا و ذهبتُ في اتجاهي إلى زاوية أخرى.. كنت مرهقة جدا, فقد وصلت المطار بعد ثمانية ساعات من سفر طويل من معبر رفح وصولا إلى القاهرة..

صعدت الطائرة و أفكار كثيرة تراودني, كنت ما أزال أشعر بالتعب الشديد, و كانت عيناي متورمتان من النعاس, لم أنم ليلة بأكملها, بحثت عن رقم مقعدي و استلقيت فيه بجانب النافذة, بعدها جاء رجل أربعيني بدين جلس في المقعد المجاور و شاب آخر جلس في المقعد الثالث الأخير..

القاهرة ليلا من نافذة الطائرة
القاهرة ليلا من نافذة الطائرة

بدأت أسمع هدير محركات الطائرة, صار قلبي يدق بسرعة, طارت الطائرة, الرجل الأربعيني لم يكف عن تصويب نظراته نحو الكتاب الذي وضعته على ركبتي, فيما كنت أراقب القاهرة  و هي تتقلص كلما ابتعدت الطائرة عن الأرض, كانت المدينة تتحول إلى لطخات مضيئة تبدو مثل نجوم صغيرة بعيدة, و لكن حين ابتعدت الطائرة أكثر فأكثر شعرت بالرهبة و لم أعد أجرؤ على النظر إلى الأسفل.. حين استقامت الطائرة و لم يعد شيء يتراءى من النافذة غير العتمة و ضباب القمر, رميت رأسي على ظهر الكرسي و أغلقت عيناي لأنام, لكنني لم أستطع, إنني من ذلك النوع من المسافرين الذين لا مقدرة لهم على النوم في الطائرات.. كانت الساعة الرابعة فجرا, يا الهي كم أصبت بالإحباط, أمامي أربع ساعات كي أصل أمستردام, و أنا أكره المكوث في مقعدي لوقت طويل بدون أن أتحرك.. أطفأت المضيفة الشقراء أنوار الطائرة و شغلت موسيقى هادئة ثم اقترحت على الرّكاب النوم!. لكنني أبدا لم أستطع النوم!, كان رأس الرجل الأربعيني يميل على كتفي فأتضايق منه و أزيح كتفي عنه, لكنه لا يستيقظ لدرجة أن شخيره بدأ يتصاعد, أزعجني ذلك لوقت حتى أرغمت نفسي على التعود على نومه و صنعت لنفسي وضعيه لأنام, ربما أنجح؟ وضعت الوسادة على النافذة و ثنيت ساقاي على المقعد كالقرفصاء و لففت جسدي بالغطاء الأزرق الرقيق, مع ذلك فشلت في النوم.. بعد نصف ساعة انتشرت المضيفات يوزّعن وجبة طعام علينا, حين جاء دورنا استيقظ الرجل و طلب أومليت بينما طلبتُ بان كيك, إضافة إلى العصير و سلطة الفواكه و البسكويت و اللبن و أشياء أخرى.. التهم الرجل وجبته بسرعة بينما أنا لم آكل غير قطعة بسكويت, لاحظ الرجل أنني لم آكل وجبتي, قال مستغربا “ايه ده؟ متاكلي يا بتّ”. ابتسمت و قلت “أكلت قبل منطلع الطيارة”, و في الحقيقة لم آكل شيئا منذ وصولي الاسماعيلة بالسيارة. كل ما كنت أريده هو النزول من الطائرة و الوصول, لأنني حقا أكره البقاء في السيارة أو القطار أو الطائرة مدة أكثر من نصف ساعة!.

عاد الرجل إلى النوم سريعا و بقيت أنا أنتظر.. مرة أخبرني صديق أنه خلال احدى رحلاته من اسبانيا الى البرازيل, و قد كان معظم المسافرين على الطائرة من أصل برازيلي, قبل أن يناموا غيروا ملابسهم و ارتدوا بيجامات, ناموا مدة خمس ساعات متواصلة و حين استيقظوا ذهبوا بالدور إلى الحمام ليفرشوا أسنانهم!. تخيّلت لو أنني أفعل ذلك لن أغير في الأمر شيئا..  شغّلت التلفاز ربما أجد فيلما جيدا يلهيني, و لكن للأسف لم أجد شيئا يلائم ذوقي, لا أعرف من اقترح وضع فيلم عمر و سلمى و أغاني نانسي عجرم في أجهزة التلفاز الخاصة بالطائرة؟ حقا إنها سخافة, مثلا سوف يكون من الأفضل لو وضعوا أغاني لأم كلثوم أو عبد الحليم, فالطائرة أجنبية و معظم الركاب أوروبيين, سوف يتعرفون و يستمعون إلى أغاني مصرية راقية و ليست هابطة كنوع من نقل صورة جميلة عن الفن المصري!!.

بدأت أشعة الشمس تضيء نوافذ الطائرة, إنه الصباح و لم نصل بعد, اتضحت الغيوم في ظل ذلك الضوء القوي, و لكنها بدت مثل سجادة قطنية بيضاء و ناعمة. استيقظ الرجل إلى جانبي, ابتسمت له, و فكّرت أن أهدر الوقت المتبقي في الحديث معه, سألته عن محطته التالية بعد أمستردام, فقال أنها المحطة الأخيرة لحضور مؤتمر طبي, و تابع بفخر “أنا دكتور عظام في جامعة القاهرة”, لم أبدِ له إعجابي في ذلك, فحاول أن يخفي غيظه و سألني عن سبب سفري, قلت له “زيارة”, رفع حاجبه الأيمن باستغراب و قال”بس؟”. بعدها غمرنا الصمت, كان الشاب قد ذهب إلى الحمام, بعد أن عاد ذهب الرجل الأربعيني أيضا, خطر في بالي أن أذهب أنا الأخرى إلى الحمام مع أنني لم أكن بحاجة إلى ذلك, و لكن على الأقل سأتحرك و أمشي قليلا في المسافة بين الحمام و مقعدي!. كان ثمة طابور مكون من خمسة أشخاص ينظرون الدور لدخول الحمام!.. كانت فتاة تقف آخر الطابور, حين رأتني أمشي مقتربة من المكان جاءت إلي, ضحكت و قالت ” فش إلا حمامين في الطيارة”.. تركت الفتاة (اسمها ريم) دورها و قالت أنها تود أن تتمشى معي بين ممرات المقاعد, رحبت بالفكرة و رحنا نتمشى طيلة الوقت المتبقي, كانت مفاجأة غير متوقعة أن ريم فلسطينية من غزة, شعرت كلتانا بالألفة و الراحة بمجرد أننا قدمنا من نفس المدينة و الوطن! و الأكثر من ذلك كلتانا مسافرتان إلى العاصمة السويدية ستوكهولم!. أخذتني ريم إلى مقعدها و قالت لي “احفظي مكاني, لما تزهقي تعالي”, و اتفقنا أن نلتقي في قاعة الهبوط حين نغادر الطائرة حتى ترشدني إلى اتجاه قاعة قلوع طائرتي إلى ستوكهولم, لا سيما و أن ريم كانت قد هولت الأمر بأن مطار سخيبول واسع جدا و ساعتين لا تكفيان كي انهي ختم جواز السفر و التوجه إلى قاعة الانتظار, فهي هبطت ترانزيت في مطار سخيبول في زيارتها السابقة للسويد و واجهت مشكلة ضيق الوقت!.

إلى اللقاء أمستردام!
إلى اللقاء أمستردام!

و بالفعل حين هبطت الطائرة الساعة الثامنة صباحا, وجدت ريم تنتظرني و ساعدتني في جر حقيبتي, قلت لها أن ساعتين تكفيان لكل الإجراءات!, فذهبنا و تناولنا القهوة, كنت أشعر بالطمأنينة كوني مع بنت بلدي!.

وصلنا نقطة ختم جوازات السفر, هناك ختمت الموظفة جواز سفر ريم و سمحت لها بالدخول, بينما أنا حوّلت جواز السفر خاصتي إلى قسم المخابرات.. وجدت نفسي محاطة بأسئلة ضبابية كثيرة, كان الشرطي الهولندي قد تأكد من لغتي الانجليزية قبل أن يبدأ برشق الأسئلة, و أصررت أنني لا أريد ولا أحتاج إلى مترجم, ثم شرع بالاستجواب الذي سيمر به كل فلسطيني, شعرت بالغضب و قلت له “لماذا تفعل هذا؟”, ابتسم و قال “لو أراد أحدنا السفر إلى بلدكم سوف تفعلون به أكثر من هذا”. جلست في قاعة الانتظار, مرت ساعة و لم أستلم جواز سفري, موعد الطائرة يقترب و الشرطي الهولندي ما زال يذهب و يعود بمزيد من الأسئلة. بعد ساعتين ذهبت إلى مكتب الشرطي و قلت له أن هذا الأسلوب غير حضاري, فرد عليّ بهدوء ” و لكن هذه مهنتي”. ابتسمت و جلست أنتظر لمدة ثلاث ساعات, كان المسافرون يمرون عني و أنا أشعر بالعقاب الذي يتلقاه المسافر الفلسطيني عند الحدود و المطارات الدولية..

خرج الهولندي إلي من غرفة مليئة بالتلفونات و الشرطة, سلمني جواز السفر مختوما مع تذكرة طائرة جديدة, ببلاهة قال لي “نعتذر عن تأخيرك, و لكنها مهنتنا الأمنية”. نظرت إليه باستغراب و سألته عن اسمه, قال لي “لماذا؟”, قلت له “أريد أن أكتب عما فعلتموه بي, بعد كل تلك الأسئلة المضايقة تعتذرون لي”. جلس و هو يغمغم “أتمنى أن لا تذكرين اسمي.. ولكن لماذا”, قلت له “مهنتي..(الكتابة)”.

حمل الشرطي الهولندي حقيبتي و أوصلني إلى قاعة انتظار الطائرة الجديدة.. كنت حزينة و غاضبة و متعبة. مع ذلك, في نفس الوقت, شعرت بالغبطة تجاه معاملة الشرطي لي, لم يقطب حاجبيه لي و لم يتكلم معي بنزق, بالعكس كان هادئا و اقترح علي الجلوس على احد المقاعد و تناول كوب شاي ريثما ينتهي من واجبه!!. أضف إلى ذلك أن الشرطي وضّح لي سبب تأخيري. في وقت لاحق حين عدت إلى غزة, تحدثت مع صديقتي الفنلندية عن الموقف الذي حصل معي, فعبّرت عن استيائها قائلة “لنكن متفقين أن الدولة لها الحق في القلق من المسافرين الذين تشك فيهم, و لكن هذا ليس عادلا أبدا حين تنشر قلقها على جميع المسافرين القادمين من فلسطين”.

أتمنى من المطارات الأوروبية أن تحسن ظنها بنا نحن الفلسطينيين, أنا لا أتوسل ذلك, بل أطالب بحق إنساني, نحن لا نسافر إلى بلادكم لنهرب و لنطلب اللجوء السياسي, بالعكس نحن نسافر لنتعلم و نرى و نتبادل الثقافات, لدي أصدقاء سافروا لحضور مؤتمرات و ندوات ثقافية و استلام جوائز عالمية.. و لكنهم لم يهربوا! اخوتي سافروا للعمل و دراسة الطب في ألمانيا و لم يفكروا يوما بالتقدم للجوء السياسي. اللعنة! الهروب و اللجوء السياسي ليسا همّ الفلسطيني, هنالك أشياء كثيرة تشغل بالنا, أيها الشرطي في المطار!.

رميت نفسي في أول مقعد صادفته, حاولت أن أتناسى الموقف الذي حدث معي قبل قليل, فاذا بريم تظهر أمامي!. نهضت من مقعدي مصدومة, عانقنا بعضنا كالبلهاء!, أخبرتها بما حدث لي, فقالت بحزن “عملوها فيي المرة اللي فاتت, هيك بعملو بالفلسطينيين لما يسافروا”. ثم قضينا وقتنا في المشي و المناكير و مقارنة حياتنا بالغرب!.. إلى أن حان موعد الطيران إلى ستوكهولم.

انتظار في مطار سخيبول- هولندا
انتظار في مطار سخيبول- هولندا

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s