قصة التيار الكهربائي و الطائرة الخائفة

التيار الكهربائي غادرنا منذ ساعات طويلة, إنه رجل المواعيد المملة, الأسلاك تمتد من عامود بعيد و تعبر في شوارع طويلة و ملتوية كي تصل إلى بيتنا, أحاول أن أرصد نقطة بداية سلكنا الكهربائي, لكنني سرعان ما أتراجع عن ذلك, يتفشى في داخلي رعب موحش, ألتفت إلى جهة الشمال, ينفجر في رأسي لغم أبيض.. أشيح بوجهي عن كل الجهات و أخبئه بين ذراعي, مثل عاشق فقد رغبته في الحب. ثمّة كائنات ضوئية تراقبني من تلك الجهة, أعمدة مرتفعة جدا, تختفي رؤوسها في غيوم كثيفة و تتنكر بزيّ النجوم, سيارات لا تتوقف عن الحركة مثل الكترونات تدور حول نواة متوهجة, بيوت رائعة و عالم آخر غارق بالنور..
كيف أغمض عيني عن ذلك العالم الأسطوري؟, لطالما لجأتُ إلى تأمله بحجة أنني خائفة و أقول بضعف أمام نظرات الدهشة لأخي الكبير ” هذا يا الله.. هذا الذي يخيفني دائما “, الضوء يقمعني, أخي لا يكترث لأخته الهبلة, حتى إنه لا يكلف نفسه بضحكة و لو ساخرة يرميها لي و يتركني!.
في هذا الصيف بالذات, أنا أحنُّ كثيرا للضوء, احتباس حراري يجمع العائلة مع بعضها البعض, قبل مغادرة الكهرباء, يتراكض الصغار إلى الوسائد و ينقلونها إلى سطح الدار, أسمعهم يهللون على الدرج, أخي الكبير يحمل أحجار النرد و يرتقي الدرج ببطء و هو لا يتوقف عن صب الشتائم على شركة الكهرباء و على عالمي المضيء.. أظل متربصة في غرفتي, أنتظر أن يخلو البيت منهم, يتسلل إليّ من الشباك صوت جارنا, يقرأ سورة النور و يدعو بخشوع سخي للصابرين, ثم تتناهى إليّ أصوات ضحكات بذيئة تنطلق من أشخاص مجهولين, أعتقد أو أكاد أجزم أنهم كانوا يتنصتون على جارنا!, هنا الأدعية صارت تتميّز بلون الانتماء الوطني, و ربما تجر أصحابها إلى السجن, لن أحذر صوتي.. سأظل أقول ” هذا يا الله.. “, و لكن هذه المرة أتابع ” هذا الذي أحتاجه ” .
بعد أن يذهبوا إلى سطح البيت, أخرج من غرفتي, أفتح الشبابيك, أطمئن على وجود التيار, بقيت دقائق معدودة كي يغادرنا, أحمل وسادتي و ألقي نظرة على النيون ثم أركض على الدرجات المؤدية إلى السطح.. أقذف وسادتي على الصغار, فيبدؤون لعبتهم المفضلة, كرة الوسائد, يضج السطح بوسائدنا, السماء ترانا بوضوح كأنها تشاهد فيلما كرتونيا, تصيح أمي بقلق على وسائدنا, نطمئنها بأن الخيوط قوية و لن تتمزق من لعبتنا, كان لعبي معهم وسيلة للتخلص من الانتظار و الضجر, التيار غادر بيتنا و لا بد أنه الآن حل في بيت آخر, ثم يغادر هذا البيت ليحل في بيت آخر و هكذا.. يا له من رجل لا يستقر و لا يقيم .
تشاجرنا على أماكن نومنا الصغيرة, كنتُ مع العائلة بين اليقظة و الصحو, اخترتُ أن أنام أمام عالمي المضيء, رأيتُ عيون الصغار تحيطني بالخوف, فلا أحد منهم يستطيع النوم أمام مستعمرة تجثو قبالة بيتنا, و لا يفصلنا عنها سوى شارع واحد !, إنها عالمي المضيء الذي يلهمني القصص و الأشعار, عالم مجنون يقتلنا و يقتات على لحومنا, لكنني أشعر بانجذاب غريب يشدني إليه, خيالي العميق يصبغ الأشياء و الأرواح بلون السلام, المستعمرة تتحوّل إلى كوكب آخر يتدوّر في عيوني و يُخيّل إليّ أنه كرة شمعية تذوي ضياء, في الوقت الذي أطفأ أبي شموعنا كي ننام, فلا ننام.. نذهب إلى أحلامنا و أفكارنا المتواضعة.. نشتهي عودة التيار الكهربائي, فالبيت تحتنا يختنق عتمة, و صخب التلفاز صامت, لا أغاني و لا مسلسلات, و كتبي كفيفة مثلي.. قفز أخي الكبير من مكانه, فجأة, وقف في منتصف السطح, وقف الصغار متلهفين كأنهم كانوا ينتظرون أحدا أن يخترق صمتهم, قال قائدهم ” عودوا إلى أماكنكم و استلقوا على ظهوركم هكذا .. “, استلقى على ظهره و تابع ” أترون كم نجمة في السماء “, صاحوا بغضب ” كثيرة.. و لا نريد أن نعدّها أيها الأحمق “, قال ” لا لا, أريد منكم أن تلتقطوا الطائرة من بين النجوم.. لقد لمحت طائرة اسرائيلية تختفي و تظهر.. هناااااك “, ضحك الصغار و راحوا ينقبون عن الطائرة بين أكوام النجوم, راقتني لعبتهم و رحت أفتش عن الطائرة, تعثرتُ بأضواء أخرى, شُهب و قطيع خرفان و قبعات و أصدقاء مضيئون يمدون لي ألسنتهم ثم يختفون خلف النجوم.. لم أجد الطائرة و ذهبتُ إلى متعة العد, كذلك فعل الصغار بعدما اكتشفوا خدعة قائدنا, فلم تكن طائرة في السماء, لكنه أقسم و هو يشير إلى نجمة كبيرة أنه رآها, و أن الطائرة ارتدت النجمة لأنها خافت من عيوننا..

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s