تراب و شجر في جسد امرأة

كانت البنت الصغيرة تفكر في كيفيّة زرع جسدها في التراب, هل بامكانها فعل ذلك؟ و لو حدث أن زرعت جسدها في التراب و أمطرت عليها الدنيا كي تنمو فهل سينبت من جسدها شجر بشري كثير من بنت واحدة ؟. تبدو الفكرة سهلة جدا بالنسبة للبنت المستلقية على سريرها تحت نافذة ضيقة و قمر مصغّر يطل من بين الغيوم المضيئة في السماء.. صباحا؛ تظاهرت بالمرض و لم تذهب إلى مدرستها, بررت لمعلّمتها سبب تغيبها عن المدرسة في ذلك اليوم, قالت بحزن ذكي ان الزقاق المقابل لبيتها قد امتلأ بالمطر و لم تستطع الخروج من باب البيت, المعلمة لم تقتنع بحجة طالبتها الغبيّة, فهي بنت غبية و ترسب في الامتحانات و تقترح على زميلاتها في الصف اقتراحات غير معقولة و لا يفهمها أحد سواها.
سألت نفسي بشفقة ” هل تعاني أختي الصغيرة من عقدة نفسية تتفاقم دون أن ننتبه إليها؟ “. كنتُ الوحيدة التي أتماشى مع حياتها الغامضة و عالمها الخاص المشتعل بالجنون. أحيانا تأتيني في منتصف الليل عارية و تتوسلني بأن أُلبسها قمصان النوم التي اشتريتها ضمن مشتريات أي عروس تخطط مع حبيبها لموعد الزفاف, و في كل مرّة أشعر بلغم ضحك سينفجر في فمي و أضحك حتى تدمير جدران الغرفة, و أحيانا أنهض من نومي فأفاجأ بها جالسة قبالة إصيص الورد في شرفة البيت و أصابعها مغروسة في السماد !.
أخذها أبي إلى طبيب نفساني و عرض عليه مشكلة ابنته الصغيرة, فحص الطبيب جسدها و صوّر دماغها أكثر من صورة فلم يجد أي خلل فيه, و لكي يثبت جدارته في طب النفس أعطى أبي أدوية مهدأة و دعا للبنت بالشفاء العاجل. صارت أمي نحيلة من كثرة البكاء على ابنتها, و تكاد تموت حزنا عليها, يا إلهي ماذا أصاب هذه البنت؟, منذ عقد قراني على ذلك الرجل البعيد و هي تتدهور عقليا!.
جاءت إليّ أمي و طلبت مني أن أترك زوج المستقبل!, لربما تتحسّن أختي و تشفى, تسمّرت أمام أمي و الذهول يلجمني عن الكلام, حسنا, سأفكر بالموضوع, فأنا أحبه و قرار تركه لأجل استرداد عقل أختي قرار صعب و قاس, فكري على مهل و لكن لا تنسي أختكِ, قالت أمي و الدموع تسيل من عينيها الغائرتين في الأمومة و الخوف, أغلقت باب غرفتي خلفها و صوت دقّات قلبها تقترب من مسمعيّ كلما ابتعد جسدها عني..
ليالٍ طويلة لم أنم, أتقلّب على سريري دون جدوى, من الأهم؟ الحبيب أم الأخت؟ لماذا جميع احتمالات سبب مرض أختي تُصبّ في حبيبي؟ ربما يكون السبب في غيره؟ لكن المرض بدأ يظهر عليها منذ عقد قراني عليه!!.
في عطلة يوم الاستقلال, أخذت أختي نزهة إلى البحر, جلسنا بالقرب من الشاطئ على صخرة ضخمة تتخلل الطحالب شقوقها, كانت صامتة صمت المجانين و كان التفكير يغرقني في عمق البحر. أمسكت بيدها و قلت لها بحنان ” ماذا بك يا أختي؟ تكلمي معي “, بانت أسنانها من بين شفتيها كأنها تتهيّأ لضحكة طويلة, لكنها رمت رأسها بين ذراعي و انخرطت تبكي بعنف, ربّت على ظهرها المرتعش, و بعدما حبست دموعها قالت بصوت متهدّج ” لا أصدق كيف ستسافرين بعد أيام قليلة إلى ما وراء البحر, إلى بلد آخر, إلى مخيم آخر.. لماذا لا يسافر خطيبكِ إلى هنا و تعيشين معنا “. ربما في تلك اللحظة بدأت الأمور تتضح, هي حزينة لأنني سوف أسافر إلى مدينة أخرى, و لجوء آخر, مرّ على خطوبتنا أشهر مريرة, و كان المعبر يؤجل زواجنا, فيزة وراء فيزة و في كل مرة لا يحالفني حظ السفر, المعبر يغلق, و رقم الباص الذي من المفترض أن أغادر غزة عبره متأخر, رقم 30, أمامي 29 باص محمل بعشرات المسافرين.. حين أصعد الباص, أتقوقع مع حقيبتي و جواز السفر قرب النافذة, أودّع عيون أهلي, و أمسح عن وجهي غبار غزة, آخر مرة صعدت فيها الباص, أذكر أن رجلا غريبا رمى إليّ من النافذة خاتما ذهبيا و هو يصيح ” ارميه في مصر.. لربما فكّ الحصار عنا”, لم أجتز الحدود و بقي أمامي عشر باصات حتى الآن لم يسافر ركابها المنتظِرين, الباص الأول هو بؤرة السوء عند جميع المسافرين, لأنه محاط بعناية شرطة الحدود و توصيات الوسطاء من ذوي النفوذ في البلدين!, كانت اللعنات و الشتائم تتجه كالسهام على ركاب الباص الأوّل, أما السائق فقد كان ينظر إلى ركاب الباصات المصطفة خلفه عبر المرآة المعلقة في سقف الباص و يحني ظهره اتجاه المقود كأنه يعتذر للمسافرين عن كل الظلم و قهر الانتظار..
امتزجت تناهيدي بماء البحر, قلتُ لها ” قضاء و قدر “, قالت بطفولة ” لازم تتزوج البنت؟ ” قلت ” حسب!”, قالت ” ليش يعني؟, بدها أولاد و تصير أم “, ضحكتُ و شردَ ذهني نحو موجة طائشة على الصخرة التي نجلس عليها.. بعد تلك النزهة عرفت سر جنون أختي, و بقيت أختي تزرع نفسها روحا و جسدا في التراب, كانت قد تزّوجت الأرض

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s