جاء إهداء الكتاب إلى ” هيفاء ” بطلة قصة ” شتاء في قميص رجل “* و التي ترمز إلى الطفولة و الوطن و الذكريات و الحلم المستمر.
و لأن غلاف الكتاب هو العتبة الأولى للنص فانه رُسم على شكل ورطة بريشة الفنان الفلسطيني الشاب جاد سلمان, الورطة يفسرها الكاتب في أضاءته قائلا : ” أنا لستُ رجلا تربويا أبدا, و لم أحلم يوما أن أكون مدرسا, تورطُت في المهنة, و ما زلت بسبب انعدام الخيارات…” ( إضاءات: ص 7).
عنوان الكتاب و معظم عناوين النصوص نجدها عبارة عن جمل اسمية, و قد أراد الكاتب أن تكون عناوينه على هذا النحو لقوة الدلالة الاسمية* من ناحية و لأنها أشد تمكنا و اخف على الذوق السليم من الدلالة الفعلية من ناحية أخرى. أما من الناحية الدلالية فالكاتب أراد بهذا العنوان أن يتلاءم مع القضية الأساسية التي يطرحها و يعالجها في الكتاب و التي تدور أحداثها و مشاكلها في المدرسة و أبطالها هم أستاذ مادة اللغة العربية (و هو الكاتب نفسه) و طلابه الانتحاريون(كما يصفهم الكاتب في كتابه).
و الأوقات الجميلة هي تلك الأوقات التي يقضيها الأستاذ مع طلابه في المدرسة أو خارج أسوارها حين يتمردون و يقفزون عن السور طائرين إلى الجبل المجاور لها كي يتناقشون مع بعضهم البعض و يحللون أخطاءهم النضرة و إيجاد الحلول الحداثية لها كما حدث مع الطالب أيمن في ( حكاية أيمن الطالب المذعور الذي ضبط في الصف يتحسس جسده : ص79)
المعلّم المغامر و انقلاب طلابه
في كتابه ” الرواة على بيدر الحكمة ” اعتبر الناقد إبراهيم السعافين أن زياد خدّاش من جيل المغامرات المفتوحة الذين انطلقوا من واقع التجريب, حيث إنه كتب عن الحياة السيئة و الواقع المرير الذي يعاني منه الفلسطيني بشكل خاص و العربي بشكل عام. و تتجلى شخصية زياد المغامر في زياد المعلّم الذي يرفض بشدّة القوانين المدرسية الصارمة و التي تكتم أنفاس الطلاب الأبرياء و تحطّ من قدرهم بطريقة و بأخرى, مما يدفعهم إلى أن يقترحوا على أستاذهم ” احتلال المدرسة ” و السيطرة على كل ممتلكاتها, بداية من الميكرفون و الطباشير و المقاعد المرصوصة في الصفوف و الكتب المقررة حتى العنف المتمثل في البرابيج !, من هنا ينقلب الطلاب على مدير المدرسة و يسجنونه مع بقية الأساتذة في مكتبه خلال اجتماع إداري مع هيئة التدريس في المدرسة ( طلابي الانتحاريون يحتلون المدرسة: ص 105 ).
الطيران و القفز عن سور المدرسة
تتكرر كلمات و ألفاظ التمرد في نصوص الكتاب بشكل متعمد و أحيانا عفوي يفيض من روح المعلم المتذمر الذي” تورط في مهنة التدريس بسبب انعدام الخيارات” (ص7). كان القفز و الطيران من أهم الألفاظ الفعلية المتمردة: حرب, جنون,كسر, خيال, عصيان, تخريب,إطاحة, جنود,.. إلخ. و كلها ألفاظ تدل بوضوح على الإرادة القوية و العصيان ضد القوانين المدرسية الإلزامية :
” يا أعزائي إنها حرب أخرى سنخوضها هذا العام ” ( ص23)
” قررت أن أبدا بشن أول المعارك بالتعاون مع جنودي ” ( ص 31 )
” انصرفت متأبطا حربي إلى غرفة المعلمين ” ( ص 42)
” قلت لهم: اقفزوا ورائي واحدا تلو الآخر, مع صيحة يطلقها كل قافز تعبر عن فرحه بالتحرر من الجدران,
قفزت أمامهم, مع صيحة فرح وحشية, قفزوا ورائي, مالئين الدنيا صياحا..” ( جماليات التخريب و سحر اللامتحقق: ص 39 )
” سنطيح بطريقة التفكير القديمة ” ( ص 51)
” هيا نرتكب خروجا عن العادي و اليومي” ( ص 63)
” قال سعيد: سنقفز عن السور كما فعلنا في السابق..” ( ص 84 )
مشروع الرؤية المجنونة للعالم.. و الحلم بالمستحيل
مشروع الرؤية المجنونة للعالم هو مشروع تربوي حديث أكثر مما هو فنتازي ابتكره المعلم/الكاتب ليتعامل مع طلابه بطريقة رائعة يملؤها الحلم و الخيال, يخترعون مع بعضهم البعض العالم المدرسي الحر فيحضرون أقفاص العصافير إلى الصف ليطلقوا سراحها من نوافذه المحفورة في جدران تشبه السجن المرعب ( ص 100).. و يرسمون على السبورة غابة فيها اسود و فيلة و نمور و غزلا ( ص 64): ” قلت لهم رائع جدا يا أصدقائي” , ” شرع الطلاب بحماس شديد بتغيير معالم الصف, اخرجوا المقاعد من الصف, بدأو يقصقصون الأوراق و يشكلونها على شكل أزهار و سناسل و صخور و أشجار و نمور و أسود ” “و هكذا لم يعد الصف صفا..”.
هذه المدرسة كثير من الطلاب يحلمون بها, و لكن تظل أحلامهم مستحيلة لا تتجاوز حدود الخيال. تكمن متعة الحلم في استحالة تحوله إلى واقع متحقق, لأنها لو ” تحققت هذه الأحلام لفقدت كونها أحلاما, لفقدت جمالها و غرائبيتها الخاصة, لأصبحت واقعا مملا..”( ص 45).. المعلّم يفك أسر طلابه من الصف و من الضجر , فيتنصّل من شخصيّة الأستاذ المتعجرف و لأول مرة يحلق مع طلابه في سماء الحلم و لعبة الخيال و تكوين الكلمات, يبدأ معهم بتعريف الكتابة الإبداعية, ثم يكون ذلك سلم الصعود إلى الكذب و القفز خلف سور الكتابة/المدرسة ( انظر نص: تجربتي في تدريس الكتابة الإبداعية للصف السابع, الكتابة كبحث خلف السور: ص 15 ),(ص32),( ص 57)..
مجزرة الخيال و إعدام المخيّلة في منهاج اللغة العربية الفلسطيني
لا يغفل زياد خداش المعلّمُ الكتابَ المدرسي المقرر عليه و على طلابه, فينقد منهاجه و عقل من صاغه: ” فالعقل الذي صاغ هذا المنهاج هو العقل نفسه الذي صاغ منهاج السابع و السادس, فليس من المعقول أن يتطور العقل فجأة ليصبح منهاجا مختلفا, يعتذر عن سطحيته السابقة ” ( حرب ضد اليباب, حرب ضد السطح: ص 23 ), و يسخر من واضعي المنهاج: ” نحن شاكرون لكم جدا إعطائنا المعلومات القيمة حول قواعد اللغة العربية, و قواعد الإملاء و الخط, هذه مهارات نحن ملتزمون بها تماما. و لكننا لن ننصاع لتوجيهاتكم بخصوص طرق التفكير, و آليات مناقشة الدروس, و في مضامين التعبير الخاوية و المملة و القاتلة للمخيلة ” ” لن نقول لهم ذلك بصوت عالٍ, سنهمس ذلك همسا حتى لا يسمعوا. ها ها ها ها ” ( ص 25 ). و يؤكّد ضرورة وجود الخيال و قابلية التخيّل و التأويل و التفكير في دروس كتاب اللغة العربية, فأسئلة الكتاب لا تثير التفكير في ذهن الطالب, دائما هي مكررة و روتينية : ” أين هي الأسئلة التي تدفع إلى جو ذهني يثير التفكير, هل سؤال من نوع ( أُذكر و لمن و بيّن ) يثير تفكيري. و حتى لو اعتبرنا أن هذا النوع من الأسئلة يثير التفكير, كيف يمكن أن يثار تفكير شخص ما لا يمتلك مخيلة, و إن امتلكها فهي كسيحة و عاجزة ؟ فكلمة المخيلة أو الخيال لم ترد في مقدمة المنهاج أبدا, هذه الكلمة الضائعة و المغيبة يفترض فيها أن تشكل فضاء العملية التعليمية كلها ” ( ص 27). و يعتبر الكاتب أن غياب هذه الكلمة ” مجزرة “, إذ يلقي بسبب المشكلة في ذلك على عاتق صائغي المنهاج و هي: ” غياب إيمانهم بأهمية تقديم نصوص تحتمل تأويلات متعددة ” ( ص 29 ) كما في قصة زائر المساء لخليل السواحري. و الكاتب لا يلومهم في ذلك بل يعذرهم : ” فهم ضحايا تربية عقيمة و أساليب بالية و رؤى قديمة ” (ص 31).
هيّا نطارد الدهشة !
الكتاب يعجُّ بالأحلام الصاخبة, و الشغب و الطلاب و المعلمون. نقرأ فيه التمرد على القوانين و الانقلاب على القديم, و لا ننسى فيروز, سنقرأ صوتها مكتوبا بلغة زياد خداش.. هذا الساحر المجنون!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شتاء في قميص رجل: عنوان قصة من مجموعته القصصية خذيني إلى موتي
* محمد عويس محمد : العنوان في الأدب العربي, النشأة و التطور
زياد خداش:
قاص و كاتب فلسطيني مقيم في مدينة رام الله, و يعمل مدرسا في مدرسة أمين الحسيني, و له العديد من المجموعات القصصية المنشورة.
My compliments for your blog and pictures included,I encourage you to photoblog,http://photosphera01.spaces.live.comEven week another photo albumGreetings from Italy,Marlow
LikeLike