شجرة طائرة

بينما كانت مريم تشدني من يدي كالطفلة الملهوفة, كانت عيناي تفتّشان على جنبات الطريق عن طائر مزروع أو شجرة طائرة!.
في شارع دمشق بغزة نتّجه إلى وزارة الخارجية لأجل توقيع يُقال أنه ” لازم “, تتأبّط مريم شهادة الهندسة المعمارية, تتأبّط بيوت غزة و شوارعها و بقايا حربها و حزنها.. تتأبَّط عمارة تهيل بالقرب منّا و ندخل مع ذكرياتها بوّابة الوزارة حيث ينتظرنا وقت طويل كي يصل دورنا و يُوقّع ذلك الموظّف المتعجرف ” الشهادة ” .
طابور طويل يصطف أمام نافذة صغيرة يطل منها رأس فارغ من التفكير, همّه الأول هو الخلاص من ضجّة الناس المنتظرين توقيعه.. يرتشف كوب النص كافيه, على مهل, و المساكين أمامه ينتظرون.. مريم تنتظر التوقيع بتذمُّر و قليلا من الصبر, بينما أنا أبحث في ملل الانتظار عن طائر مزروع أو شجرة طائرة!.
في عزّ الظهيرة نقف بثبات أمل و هزال عربي ذليل, و أخيرا جاء دور توقيع ورقتنا.
نحتفل بالتوقيع على مائدة هي مجرد برميل ماء متصحّر, نشرب كوبين بلاستيكيين من عصير الجوافا البارد و نترك الكوبين يعانيان من الجفاف على البرميل, ثم نتّجه إلى بريد أرامكس.
سنرسل الشهادة الموقّعة من وزارة الخارجية إلى الامارات العربية الغير مفكّكة, نزعتُ ورقتين من دفتري, ورقة لرسالتي إلى أخوتي هناك, و ورقة لرسالة مريم إلى خطيبها, كتبتُ أشواقي إلى أخوَيّ, و رسمتُ لهما طائرا و شجرة, أمّا مريم فكتبت لخطيبها موعد الزفاف و أخبار معبر رفح.. وضعنا الشهادة و الرسالتين في ظرف ورقي و قبل أن تلصقه موظفة البريد تذكرنا صورة أمي و أبي, وضعناها في الظرف و ألقينا التحيّة على الغربة..
بعد أيّام سيستلم أخي الظرف و يقول ” ياااااااااه شو اشتقت لاختي “.
أسرتي تنقص فردا فردا, أخوتي يسافرون و لا يعودون, ما أصعب الاغتراب. مريم تُعدّ حقيبتها للسفر و الإقامة في دبي, و أبي يهيّئ نفسه للسفر إلى ألمانيا و الاطمئنان شخصيا على ابنه هناك الذي سيصبح فيما بعد طبيبا جراحا, أمّي سترافق مريم إلى الامارات و تحضر حفل زفافها ثم تعود.. وحدها أمي تعالج كبد شوقها بكبد الأمومة و العودة.. كم أحنّ إلى عتمتي الأولى, إنها رحم أمي.. هذه المرأة التي أعطتنا من عمرها أكثر من عدد السنيّ التي تعيشها, كم تعيشين لأجلنا..
في طريقنا إلى البيت, ألقيت عينيّ من نافذة السيّارة كي تبحثان في غزة عن طائر مزروع أو شجرة طائرة! .
قلتُ له إن وجدتها سأعلّق على غصنها البعيد رسالة, لم يسألني عن الرسالة, و انهمك يصفُ لي لحظة نزوحه من فلسطين.

2 thoughts on “شجرة طائرة

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s