” بيقولوا انه خبز البلاد أزكى و لونو حلو كثير ” , كان يقف مع زوجته أمام مخبز الطابون في شارع فكتور هوجو, يثرثر دون أن ينتبه إليها.. كانت تعض على شفتها السفلى, و تكابد ألما مفاجئا يشتد في بطنها.. مدّ إليه الخبّاز كيس الخبز و قال باستعجال ” أعطي الشاب خمس شواكل ” .. كان الخبّاز يبدو للمشتري أنه المسئول عن المخبز و عمّاله, حاجباه السميكان, وجهه المدوّر مثل أرغفة الخبز, أنفه المنتفخ بشكل يثير السخرية, جسده الممتلئ و المترهل, سمين لكنه رشيق, يتنقّل من فرن إلى آخر بسرعة, يلقي تعليماته على هذا العامل, و يأمر ذاك, و يشتم هذا الذي احترقت أرغفته بسبب شرود ذهنه عن الفرن..
دفع أبو وليد مقداد ثمن الخبز للشاب و مضى إلى الشارع ليوقف سيارة تقله إلى البيت, توقّفت سيارة أجرة صفراء, و قبل أن يركب تذكّر زوجته, أين هي؟!.. نظر خلفه فإذا بها ما تزال تمشي و تجر قدميها نحوه بإجهاد و تعب.
كانت حبّات عرق تنزّ من وجهها الشاحب, جلست إلى جانبه في السيارة و لهاثها الساخن يلفع وجهه, سألها باستغراب ” هل أنتِ بخير ؟ ” , ضغطت بيدها على بطنها و قالت بصعوبة “يوجعني.. كثيرا ” , تأوّهت و نشجت بصمت حتى لا يسمعها الركاب الآخرين, شعر زوجها بأن ألمها طارئ و يحتاج إلى طبيب, طلب من السائق أن ينزلهما عند المشفى السويدي.
جاء الطبيب بعد دقائق, قال مبتسما لأبي وليد ” مبروك ” , فهم أن زوجته حامل, هرول إلى غرفة الفحص و بارك لزوجته طفلهما القادم.. كان ينقصه جناحين ليطير من شدة الفرح, بينما زوجته لم تتوقّف عن البكاء..
استمرت تبكي حتى الشهر الخامس من حملها!, ظنّ أبو وليد أن بكاءها مجرد حالة نفسية كالتي أصيبت بها في حمل ابنها وليد, لكنّ الأمر مختلف هنا !.
كان يأتي إليها بالسمك الذي يصطاده من البحر الممتد أمام المخيم, لم ينقطع السمك عن البيت تسعة أشهر, يخرج عند طلوع الفجر إلى البحر ليعود في آخر النهار ببضعة سمكات, أحيانا يستولي عليه التذمر, فيجلس مع أصدقائه العاطلين عن العمل, في أحد أزقّة مخيم الشاطئ, يتداولون مشاكلهم اليوميّة مثل انقطاع التيار الكهربائي المستمر و شحّ المياه و تلوثها, و يجدون في أحاديثهم منفذا للهروب من مأساة اللجوء و متنفسا ينشقون منه هواء الحرية و نسيم الذكريات.. يتجادلون و يحتد بينهم النقاش عن الأوضاع السياسية في البلد, فيختلفون على الأحزاب, فلان لا يستحق الجيرة لأنه يؤيد حزب كذا, و فلان ابنه انسحب من حزب الكذا.. أبو خالد قفّل دكانه و راح يتاجر في الأنفاق.. مرتْ الناطور ماتت حرقة على ابنها اللي استشهد في الحرب.. و أنتَ.. أنتَ يا أبا وليد؟ , هل نهايتك ستكون الموت حرقة على ابنك وليد الذي استشهد في الحرب أيضا ؟.. و لكن ها هو وليد ثانٍ في طريقه إليكَ.. يمسح الرجل المكسور دمعة نبتت في عينه, شمّ رائحة البحر تفوح من بين أصابعه.. عاد إلى بيته, وجد زوجته نائمة و هي تشهق من كثرة البكاء..
صباحًا؛ نهضت أم وليد من نومتها على ضجة الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم, لاحظت أن بطنها انتفخ و أن أي امرأة في المؤسسة التي تعمل فيها بطالة بعقد سنوي, ستلاحظ أنها “حامل ” , تحسست بأناملها بطنَها, كانت ترتعش مثل عصفور خائف.. ها هو عمر الجنين دخل في شهره السادس, و النساء اللاتي يعملن معها لم يلحظن ذلك, لا يعرفن عن حمل صديقتهنّ أم وليد.. لا يعرفن أنها في الشهر السادس, و إذا عرفن مؤكد أن إحداهنّ ستنقل الخبر إلى مدير المؤسسة, و بالتالي سيعطيها إجازة ” حمل و ولادة “, و هذه الإجازة السحيقة تبدأ من الشهر الخامس من الحمل حتى الشهر الثاني بعد الولادة.. يعني سبعة أشهر. كانت أم وليد تطرّز على الثوب, و قد عدّت سبعة غرز فيه, لم تخطئ العدّ.. سبعة غرز تساوي سبعة أشهر.. يعني سبعة أشهر تقضيهنّ في البيت و بدون أجر.. يعني أن الفقر سينهش من لحمها و من لحم زوجها مدة سبعة أشعر.. يعني أن أبا وليد سيعود إلى البحر من جديد, و يحارب مع سفينته الموجَ متصالحا مع مرضه الصدري المزمن.. يا إلهي ساعدني..
تغرق أم وليد في دوامة التفكير.. ماذا لو.. لا لن يعرفن أنها دخلت في الشهر السادس.. صحيح أنّ بطنها منتفخ, و لكن ليس كثيرا, طبيعة حملها هكذا, في حمل وليد انتفخ بطنها في الشهر الخامس و بعدها توقّف عن الانتفاخ..
في ذلك اليوم المشرق, اشترى لها أبو وليد ربطة خبز من ذات المخبز, نفسه الذي اكتشفت عنده حملها.. لم تأكل من الخبز لأن شكل صاحب المخبز يشبه شكل مدير المؤسسة التي تعمل فيها.. رمت رغيف الخبز بعيدا عنها و بكت, عادت تبكي ببؤس و يأس, فيما زوجها يثرثر عن ” خبز البلاد ” غير مهتما ببكائها العاديْ ..