رسم طفولته و مضى

جدول دم خشن يسيل من نهاية خليج العقبة, يصبّ في بقعة غامضة رسمها الفنان على لوحة جدارية مطعّمة بالدموع و المآسي, كان الجدار مطليّا بالألوان و الرسوم الساكنة عمدا, فلا أوجع من أن يكون السكون/الصمت سفير الأحزان عبر الزمن, و فلسطين على ذاك الجدار صامتة و تغني مع ابراهيم طوقان: صامت لو تكلما..
كانت اللوحات على جدران مدارس الغوث في مخيم الشاطئ, تشارك الأطفال ضحكاتهم, طلاب الصفوف الابتدائية, يحملون الفرشاة و علبة الألوان, يضع أحدهم الفرشاة على بداية الجدار و يركض ببراءة حتى يصل نهاية الجدار, أستاذه يصفق له و يقول مبتهجا: لقد رسمت خطا أزرقا طويلا, يصيح الطلاب من بعيد: أوووه, يبدو الخط الأزرق مثل بحر غزة اللاوي. أطلب من سائق السيارة الخاصة أن يصفّ سيارتنا في مكان خال, أنزل من السيارة و أهرول إلى الطالب الذي سمعته يقول”بحر غزة اللاوي”, أسأله “شو يعني بحر غزة اللاوي”, يقطب الطالب حاجبيه و يذهب إلى أصدقائه !, حين يصلهم يضحك بصوت عال و يقول “الأستاز علمنا إياها”, تقدمت نحو أستاذهم و سألته عن معني اسم بحرهم؟, انزلقت نظارته حتى أرنبة أنفه و نظر إليَّ من أعلى النظارة كما و لو أن عينيه صعدتا سلما للشمس, قال: اتفقنا مع طلاب رام الله أن نرسم رسائلنا إليهم على جدران المدارس, طلابي يرسمون البحر لهم و طلابهم يرسمون الجبل لنا, في الليل تطير الرسومات و تتحول إلى غابات و بحار..
أطفال تجاوزا الواقع ليتحدوا مرارته بحلاوة أحلامهم و براءتها, من بعيد يصفق الطلاب لزميلهم الذي رسم سفينة, تركت الأستاذ و ذهبتُ أشاركم الرسم, رسمت في سفينتهم صندوقا كبيرا و قفلا يغلقه, التم الطلاب حولي مذهولين و سألوني: شو يعني؟, قلتُ: في الصندوق كنز خطير سوف نهرّبه إلى طلاب رام الله, ما عليهم سوى أن يكسروا القفل. قال طالب يربط حول معصمه قطعة مطاط ملونة: ليش خطير؟, قلت: لأنه ممنوع و يهدد أمن الاحتلال. تنقلت عيون الطلاب فيما بينهم, أحدهم وضع يده على ذقنه محتارا, سألني و هو يرسم في الهواء شيئا ما: أين المفتاح؟, قلتُ: مع طالب في رام الله, قال: هذه أول مرة نتراسل مع طلاب رام الله, ضحك صديقه: ها ها ها أصلا نحن لم نتراسل مع غيرهم من قبل, استدركه صديق و قال: لكننا تراسلنا مع الله, صفّر أستاذهم له و قال: لم يخطر ببالي, ثم صفّق و قال: رائع.. أنتم رائعون. رنّ جرس المدرسة معلنا انتهاء حصة الرسم حسب الجدول المخطط لفعالياتهم الصيفية, اتفقوا مع بعضهم البعض أن يراسلوا الله هذه الليلة, في لحظة اختفوا من حولي و سمعت ضجتهم في الصفوف..
صباحا, ذهبت إلى جدار المدرسة, فوجئتُ بأن أحدهم رسم للقفل مفتاحا, و من الصندوق ينهمر شلال ورد, طالب ما رسم طفولته و مضى..

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s