وهج الظهيرة و قيظها الممل حدّ النعاس, وابل من العرق ينهمي.. أتابع كتابة المذكرات بصعوبة بالغة, ألفاظي تشتد وحشية كلما شعرتُ بمرضي يتوغل بي و يهلكُ جسدي الضعيف. خمس أيام من الحمى, إنها أشبه بِـ “سل” ساخن, ثمة جداول نارية تركض في أوردتي, لحمي ينصهر, انفجار جهنمي في رأسي, أتأوه ألما, تهرول أمي, ترشّ جسدي الحار بالثلج, يداها سماء تندف أدوية يائسة.. تحولتْ معدتي إلى مستنقع أسود لأقراص الأدوية و المسكنات. أسند ظهري على الوسائد القطنية, عنقي يرتخي و رأسي يتدلى ورائي, عينايَ تحلّقان في سقف الغرفة, أحس بأنهما انفصلتا عن باقي جسدي, تنمو رموشي و ينبتُ بينها ريشا طويلا, تصير عينايَ فراشتان, تطيران من نافذتي و ترفرفان فوق شجر الحدائق..
كانت الحياة تبدو يابسة مثل تربة صحراوية, الحمى بلا قلب, فقدتُ وزني و توازني, تقلّص جسدي, كائن آيل للانقراض, و أصبحتُ أنتظر موتي برحابة, أضع أصابعي الناحلة على عيني, و أتصوّر نفسي كيف أقابل وجهي بهذا الشكل؟ أخاف أن أراني على المرآة.. أخاف من منظر هذا الجسد الشاحب و هو يتأرجح في أوج مرضه أمام عيني..
أتقنتُ الوحدة, فشلتُ في تكوين صداقة مع الحمى, وحدهُ السرير كان صديقي, أتلوى عليه مثل دودة شريطية, ألفتُ رائحة الأدوية, و لم أعد أشعر بالغثيان لمجرد أن أشم رائحة دواء ما.. في سفن الوجع تصدر الحمى جسدي, أحترق.. مجنون هذا الحريق لا ينطفئ و لا يرحم. قلتُ ” هيا نامي حتى الموت و اختاري النار أهون من هذه النار “.. سمعتُ صوتي! بدأت الحمى تنهكني, أهلوس, أهذي و أتكلم مع لا أحد, أخي الصغير يضع كوب الماء البار و يهرب.. يهرب هلعا من حالتي المخيفة, بعد دقائق أنهض قليلا, أتساءل ” من جلب هذا الكوب إليَّ؟ “, ” من كان يتكلم قبل قليل؟”. أفاجأ بأمي متسمرة أمامي, تطمئن عليَّ و تتركني أعارك المرض..
هاتفي الخلوي يرن, هل أردّ على المتصل, لربما هلوستُ معه, لا أريد أن أتورط.. أجدني فتحتُ الخط, يأتيني صوته كأنه آتٍ من خارج الغلاف الأرضي, كأنه صدى صوت مجهول, يقول” آلو.. أنا علي”, ماذا يريد علي أبو حطاب(مترجم), عقلي لا يستوعب مكالمة كاملة, يدعوني علي إلى دورة في الكتابة الابداعية, ثم يصف لي مكان المركز الذي ستقام فيه الدورة, يؤكد لي على أهمية حضوري و إلا “سيزعل إن لم أحضر”, قال أن عثمان حسين(شاعر) و أحمد الحاج أحمد(شاعر) سيكونان من الحاضرين.. تنهدتُ و سعلتُ بكسل, قلتُ له”محمومة.. إن استطعتُ سأحضر”, قال” لا تتمارضي..دائما لا تحضرين دعواتي”, بعدها تكّلم و لم أكن أسمع أي صوت له, فقد فقدتُ تركيزي و تعبتُ. ارتمت يداي, وقع الهاتف على الأرض و سمعتُ أنين تكسره, حاولتُ الوقوف كي أذهب إلى الحمام, اتكأتُ على جدران الغرفة, جررتُ جسدي و ارتسم خط عرق طويل على الجدران المؤدية إلى الحمام, كان الكرسي مجهزا لمرضي, جلستُ تحت “الدش”, انهمر الماء البارد على جسدي بلا هوادة, لم أشعر ببرودته, كانت حرارتي المرتفعة أقوى من الماء البارد, اعتقدتُ أنني أخطأتُ في الماء, تأكدتُ من وضعه البارد, إلا أن جسدي فقد احساسه بالبرودة, كانت المياه الباردة تسخن على لحمي, تخيلتُ أنني خلال دقائق سأتحول إلى بقعة بحرية حارّة, ستنمو على كتفي الطحالب, و ستقفز من بين أصابعي الأسماك الصغيرة و الضفادع..
ارتديتُ الملابس الخفيفة جدا, استلقيتُ على السرير, المرض ممل, هكذا اتفق حسين البرغوثي مع كيركغارد, ممل..ممل. ماذا أفعل؟ بماذا أتسلى؟, الحمى تتسلى بجسدي و أنا أتأوّه, و أنا أعد النجوم من نافذتي فلا أنام.. السعال يخربش صدري, سيخ حديدي يشع اشعاعات نارية زرقاء يدخل صدغي من اليمين و يخرج من الجهة اليسرى, سكاكين و مسامير تدق ركبتيّ.. أبكي, يمتزج دمعي مع العرق و السعال و هذياني.. تهرول إليّ أمي, تلقمني المسكنات.. و أنام.
صباحا, أنهض من غيبوبتي, أتحسس جسدي, من خلال درجة حرارته المعتدلة أكتشف أنني شفيتُ, يا للمعجزة!. أحمل بشرى الشفاء إلى أمي, يفرح معها أبي.. الآن تحرر جسدي من لعنه المرض, أتذكّر علي أبو حطاب, قلتُ لن أخذله, ذهبتُ إلى المركز القومي حيث ستقام الدورة, جاءت أختي معي لأنني ” كائن ما بعد المرض” !, سلّمتُ على الحاضرين, كان الشاعر عثمان حسين هادئا و طيبا كما عرفته أول مرة, صافحني و قدّمني للدكتورة مي نايف, كانت باسمة و ذات وجه يمنحك الدفء و الطمأنينة, جلستُ أنا و أختي آخر صفوف المقاعد, كان تنفسي هادئا و نظراتي العميقة تتجول في القاعة مثل عصفور يتفقّد عشّه الأخير!, لا أعرف لماذا شعرتُ بالجبن حين وقعت عيني على المقعد الفارغ الجالس إلى جانب مقعد الدكتورة مي نايف!, أنا أتأمل القاعة التي زرتها قبل هذه المرة بدعوة من صديق ألح على أن يُعرفني على فرقة مسرحية من الشبان الواعدين, كانوا يتدربون على مسرحية شعرية من تأليفهم, يومها رحبوا بي بحرارة و بدأ كل واحد منهم بأداء دوره أمامي كما و لو أنه يمثل على خشبة المسرح, ساعة و غادرتُ القاعة بصمت ساذج, لم أعلق على أدائهم .. و لا شيء, الصديق ندم على دعوته لي لأنني لم أتكلم مع أصدقائه الرائعين, لم يكن تصرفي مكابرة أو استياء, فقط صمتُ دهشة من مجموعة من الشبان الغزيين الطموحين حدّ المجد.. من بعيد يُناديني الشاعر عثمان حسين باشارة من يده الصامتة, ذهبتُ إليهِ, فقال ” اجلسي هنا”, جلستُ على المقعد بالقرب منه, كانت فتاة معاقة تجلس على يميني, قال عثمان” هذه دورة للكتابة الابداعية”, قلتُ” آهاا” ابتسمتُ, و ساد الصمتُ بيننا. شغّل أحدهم المراوح, خفف هدير المراوح من ذاك الصمت الغامض, خرج عثمان من القاعة, عدتُ إلى مقعدي في الصف الأخير, كانت أختي تضحك, لم تكف عن الضحك, يبهجها رؤية الشعراء, منظرهم, سجائرهم, ملابسهم و أناقتهم, طريقة كلامهم, كلامهم نفسه يُضحكها ببهجة و سخرية لاذعة, جعلتني أضحك معها, تعليقاتها الساخرة أنستني نفسي و دعتني أضحك.. أضحك.. و أضحكُ على غبائي فأنا من سلالتهم!.
وقفتْ الدكتورة مي أمامنا, أعلنت بذلك بدأ المحاضرة فهي مدربتنا و لها الحق في البداية و النهاية, أشارت إليّ أن أتقدم مع أختي إلى الصفوف الأولى, تقدمنا و جلسنا إلى جانب البقية, انضممتُ إليهم, نور و جهاد و هاني و ديانا و آخرون من الكتاب الواعدين, جميعهم تقريبا بمثل عمري, سرّني ذلك كثيرا و في نفس الوقت هبّت نسمات حزن في نفسي, منذ زمن و أنا أفتقد التعامل مع أشخاص بعمري, في أغلب الأحيان أكون مع الثلاثين أو الأربعين فأكبر, وجدتُ صعوبة في الاندماج معهم, بقيتُ صامتة, كنتُ مستمعة فقط, بين الفينة و الأخرى كانت الدكتورة مي تستحثني على التكلم, فمثلا تقول” آ يكوثر” ” شو رأيك كوثر”, و كوثر إما أن تنطق كلمة واحدة أو تهز رأسها, كذلك الشاعر أحمد الحاج أحمد كان ينظر إليَّ, و كلما نظر إليَّ و اصطدمت نظراتنا ببعضها شعرتُ أن قلبي انقبض أو وقع مني, سكوني و طبيعتي الصامتة أخشى عليهما من الخدش, الحكمة تقول ” الواثقون من أنفسهم غير مجبرون على الكلام”, و لم أتكلم, أحمد الحاج أحمد يسألنا” ما الأهم: الللغة أم النص”, أصدقائي يتفقون أن النص هو الأهم, يتناقشون, يبدون آراءهم, أنا أسمع و أبقى صامتة, ينظر إليَّ أحمد و يقول”كوثر؟!!”, أقول بهدوء” اللغة”, لماذا؟, لأنها الأساس, و أصمت, لا يتكلم أحمد مع صمتي, يتابع نقاشه معهم.. في بداية المحاضرة طلبت منا الدكتورة مي أن نقرأ عليها شيئا من كتاباتنا, كلهم قرأوا لها, في نهاية المحاضرة تذكّرتْ أنني لم أقرأ, شهقت و هي تنظر إلى أحمد الحاج أحمد, قال” كوثر لم تقرأ لنا”, ابتسم و عيناه بيني و بين الدكتورة, قال” كوثر غنيّة عن ذلك, لقد قرأتِ لها في عشتار”, ابتسمنا و صمتْ. قبل أن أغادر المركز أطيتُ الدكتورة ميْ مجموعة من القصص القصيرة و طلبتُ منها قراءتها و رأيها, حملتُ حقيبتي على كتفاي و خرجتُ, قلتُ لأختي” لنحتفل بشفائي من الـ.. ما بتتسمى”(أي الحمى), كانت الساعة الحادية عشر صباحا, لم نذهب إلى مطعم بالميرا لأنه سيكون في طور فتح الأبواب!, ذهبنا إلى مطعم الشعب, مطعم شعبي يقدم “الفراشيح”, أكلتُ فرشوحة و أصررتُ على شرب العصير الطبيعي من المعصرة القريبة, خجلت أختي من منظري و أنا أشرب كأسي في الشارع!. الأماكن الشعبية أكثر قرابة مني, أحب أن أكون في قلب المدينة, في شغبها و شعبيتها و فقرها, بالميرا و اللايت هاوس و الديرة و ديليس.. إلخ, أماكن أقابلها مع صديقاتي أو أهلي, أما الأماكن البسيطة فهي الأقرب و الأحب إليَّ..
عدنا إلى البيت, عدتُ انسانة غير مريضة, حرارتها مثل حرارة أختي و أخي و أمي و أبي, قطتي الفارسية لم أعد أغار منها, صرتُ ألعب و أنط مثلها, هل كانت الحمى يوم أمس مجرد كابوس؟.. كلما تذكرتُ حالتي الرهيبة أشفقتُ على جسدي, و الآن أشفقُ عليهِ أكثر لأن الحمى عاودته!. سيل جارف من الألم الحار يتدفق بي, أسقط عضوا فعضوا على سريري, الطبيب يطمئن أبي على الهاتف و يقول له ” الفيروس سينتهي خلال أيام”, خمس أيام من الموت القبيح, خمس أيام من الشلل و الانكسار و الذّل أمام الحمى, أغيب عن الوعي, أهلوس, أنهض, ينهض الوجع, الحرارة ترتفع, أرتفع إلى تلال الموت, السماء تبتعد.. تعال أيها الموت و خلصني من الحمى.
كانت الحياة تبدو يابسة مثل تربة صحراوية, الحمى بلا قلب, فقدتُ وزني و توازني, تقلّص جسدي, كائن آيل للانقراض, و أصبحتُ أنتظر موتي برحابة, أضع أصابعي الناحلة على عيني, و أتصوّر نفسي كيف أقابل وجهي بهذا الشكل؟ أخاف أن أراني على المرآة.. أخاف من منظر هذا الجسد الشاحب و هو يتأرجح في أوج مرضه أمام عيني..
أتقنتُ الوحدة, فشلتُ في تكوين صداقة مع الحمى, وحدهُ السرير كان صديقي, أتلوى عليه مثل دودة شريطية, ألفتُ رائحة الأدوية, و لم أعد أشعر بالغثيان لمجرد أن أشم رائحة دواء ما.. في سفن الوجع تصدر الحمى جسدي, أحترق.. مجنون هذا الحريق لا ينطفئ و لا يرحم. قلتُ ” هيا نامي حتى الموت و اختاري النار أهون من هذه النار “.. سمعتُ صوتي! بدأت الحمى تنهكني, أهلوس, أهذي و أتكلم مع لا أحد, أخي الصغير يضع كوب الماء البار و يهرب.. يهرب هلعا من حالتي المخيفة, بعد دقائق أنهض قليلا, أتساءل ” من جلب هذا الكوب إليَّ؟ “, ” من كان يتكلم قبل قليل؟”. أفاجأ بأمي متسمرة أمامي, تطمئن عليَّ و تتركني أعارك المرض..
هاتفي الخلوي يرن, هل أردّ على المتصل, لربما هلوستُ معه, لا أريد أن أتورط.. أجدني فتحتُ الخط, يأتيني صوته كأنه آتٍ من خارج الغلاف الأرضي, كأنه صدى صوت مجهول, يقول” آلو.. أنا علي”, ماذا يريد علي أبو حطاب(مترجم), عقلي لا يستوعب مكالمة كاملة, يدعوني علي إلى دورة في الكتابة الابداعية, ثم يصف لي مكان المركز الذي ستقام فيه الدورة, يؤكد لي على أهمية حضوري و إلا “سيزعل إن لم أحضر”, قال أن عثمان حسين(شاعر) و أحمد الحاج أحمد(شاعر) سيكونان من الحاضرين.. تنهدتُ و سعلتُ بكسل, قلتُ له”محمومة.. إن استطعتُ سأحضر”, قال” لا تتمارضي..دائما لا تحضرين دعواتي”, بعدها تكّلم و لم أكن أسمع أي صوت له, فقد فقدتُ تركيزي و تعبتُ. ارتمت يداي, وقع الهاتف على الأرض و سمعتُ أنين تكسره, حاولتُ الوقوف كي أذهب إلى الحمام, اتكأتُ على جدران الغرفة, جررتُ جسدي و ارتسم خط عرق طويل على الجدران المؤدية إلى الحمام, كان الكرسي مجهزا لمرضي, جلستُ تحت “الدش”, انهمر الماء البارد على جسدي بلا هوادة, لم أشعر ببرودته, كانت حرارتي المرتفعة أقوى من الماء البارد, اعتقدتُ أنني أخطأتُ في الماء, تأكدتُ من وضعه البارد, إلا أن جسدي فقد احساسه بالبرودة, كانت المياه الباردة تسخن على لحمي, تخيلتُ أنني خلال دقائق سأتحول إلى بقعة بحرية حارّة, ستنمو على كتفي الطحالب, و ستقفز من بين أصابعي الأسماك الصغيرة و الضفادع..
ارتديتُ الملابس الخفيفة جدا, استلقيتُ على السرير, المرض ممل, هكذا اتفق حسين البرغوثي مع كيركغارد, ممل..ممل. ماذا أفعل؟ بماذا أتسلى؟, الحمى تتسلى بجسدي و أنا أتأوّه, و أنا أعد النجوم من نافذتي فلا أنام.. السعال يخربش صدري, سيخ حديدي يشع اشعاعات نارية زرقاء يدخل صدغي من اليمين و يخرج من الجهة اليسرى, سكاكين و مسامير تدق ركبتيّ.. أبكي, يمتزج دمعي مع العرق و السعال و هذياني.. تهرول إليّ أمي, تلقمني المسكنات.. و أنام.
صباحا, أنهض من غيبوبتي, أتحسس جسدي, من خلال درجة حرارته المعتدلة أكتشف أنني شفيتُ, يا للمعجزة!. أحمل بشرى الشفاء إلى أمي, يفرح معها أبي.. الآن تحرر جسدي من لعنه المرض, أتذكّر علي أبو حطاب, قلتُ لن أخذله, ذهبتُ إلى المركز القومي حيث ستقام الدورة, جاءت أختي معي لأنني ” كائن ما بعد المرض” !, سلّمتُ على الحاضرين, كان الشاعر عثمان حسين هادئا و طيبا كما عرفته أول مرة, صافحني و قدّمني للدكتورة مي نايف, كانت باسمة و ذات وجه يمنحك الدفء و الطمأنينة, جلستُ أنا و أختي آخر صفوف المقاعد, كان تنفسي هادئا و نظراتي العميقة تتجول في القاعة مثل عصفور يتفقّد عشّه الأخير!, لا أعرف لماذا شعرتُ بالجبن حين وقعت عيني على المقعد الفارغ الجالس إلى جانب مقعد الدكتورة مي نايف!, أنا أتأمل القاعة التي زرتها قبل هذه المرة بدعوة من صديق ألح على أن يُعرفني على فرقة مسرحية من الشبان الواعدين, كانوا يتدربون على مسرحية شعرية من تأليفهم, يومها رحبوا بي بحرارة و بدأ كل واحد منهم بأداء دوره أمامي كما و لو أنه يمثل على خشبة المسرح, ساعة و غادرتُ القاعة بصمت ساذج, لم أعلق على أدائهم .. و لا شيء, الصديق ندم على دعوته لي لأنني لم أتكلم مع أصدقائه الرائعين, لم يكن تصرفي مكابرة أو استياء, فقط صمتُ دهشة من مجموعة من الشبان الغزيين الطموحين حدّ المجد.. من بعيد يُناديني الشاعر عثمان حسين باشارة من يده الصامتة, ذهبتُ إليهِ, فقال ” اجلسي هنا”, جلستُ على المقعد بالقرب منه, كانت فتاة معاقة تجلس على يميني, قال عثمان” هذه دورة للكتابة الابداعية”, قلتُ” آهاا” ابتسمتُ, و ساد الصمتُ بيننا. شغّل أحدهم المراوح, خفف هدير المراوح من ذاك الصمت الغامض, خرج عثمان من القاعة, عدتُ إلى مقعدي في الصف الأخير, كانت أختي تضحك, لم تكف عن الضحك, يبهجها رؤية الشعراء, منظرهم, سجائرهم, ملابسهم و أناقتهم, طريقة كلامهم, كلامهم نفسه يُضحكها ببهجة و سخرية لاذعة, جعلتني أضحك معها, تعليقاتها الساخرة أنستني نفسي و دعتني أضحك.. أضحك.. و أضحكُ على غبائي فأنا من سلالتهم!.
وقفتْ الدكتورة مي أمامنا, أعلنت بذلك بدأ المحاضرة فهي مدربتنا و لها الحق في البداية و النهاية, أشارت إليّ أن أتقدم مع أختي إلى الصفوف الأولى, تقدمنا و جلسنا إلى جانب البقية, انضممتُ إليهم, نور و جهاد و هاني و ديانا و آخرون من الكتاب الواعدين, جميعهم تقريبا بمثل عمري, سرّني ذلك كثيرا و في نفس الوقت هبّت نسمات حزن في نفسي, منذ زمن و أنا أفتقد التعامل مع أشخاص بعمري, في أغلب الأحيان أكون مع الثلاثين أو الأربعين فأكبر, وجدتُ صعوبة في الاندماج معهم, بقيتُ صامتة, كنتُ مستمعة فقط, بين الفينة و الأخرى كانت الدكتورة مي تستحثني على التكلم, فمثلا تقول” آ يكوثر” ” شو رأيك كوثر”, و كوثر إما أن تنطق كلمة واحدة أو تهز رأسها, كذلك الشاعر أحمد الحاج أحمد كان ينظر إليَّ, و كلما نظر إليَّ و اصطدمت نظراتنا ببعضها شعرتُ أن قلبي انقبض أو وقع مني, سكوني و طبيعتي الصامتة أخشى عليهما من الخدش, الحكمة تقول ” الواثقون من أنفسهم غير مجبرون على الكلام”, و لم أتكلم, أحمد الحاج أحمد يسألنا” ما الأهم: الللغة أم النص”, أصدقائي يتفقون أن النص هو الأهم, يتناقشون, يبدون آراءهم, أنا أسمع و أبقى صامتة, ينظر إليَّ أحمد و يقول”كوثر؟!!”, أقول بهدوء” اللغة”, لماذا؟, لأنها الأساس, و أصمت, لا يتكلم أحمد مع صمتي, يتابع نقاشه معهم.. في بداية المحاضرة طلبت منا الدكتورة مي أن نقرأ عليها شيئا من كتاباتنا, كلهم قرأوا لها, في نهاية المحاضرة تذكّرتْ أنني لم أقرأ, شهقت و هي تنظر إلى أحمد الحاج أحمد, قال” كوثر لم تقرأ لنا”, ابتسم و عيناه بيني و بين الدكتورة, قال” كوثر غنيّة عن ذلك, لقد قرأتِ لها في عشتار”, ابتسمنا و صمتْ. قبل أن أغادر المركز أطيتُ الدكتورة ميْ مجموعة من القصص القصيرة و طلبتُ منها قراءتها و رأيها, حملتُ حقيبتي على كتفاي و خرجتُ, قلتُ لأختي” لنحتفل بشفائي من الـ.. ما بتتسمى”(أي الحمى), كانت الساعة الحادية عشر صباحا, لم نذهب إلى مطعم بالميرا لأنه سيكون في طور فتح الأبواب!, ذهبنا إلى مطعم الشعب, مطعم شعبي يقدم “الفراشيح”, أكلتُ فرشوحة و أصررتُ على شرب العصير الطبيعي من المعصرة القريبة, خجلت أختي من منظري و أنا أشرب كأسي في الشارع!. الأماكن الشعبية أكثر قرابة مني, أحب أن أكون في قلب المدينة, في شغبها و شعبيتها و فقرها, بالميرا و اللايت هاوس و الديرة و ديليس.. إلخ, أماكن أقابلها مع صديقاتي أو أهلي, أما الأماكن البسيطة فهي الأقرب و الأحب إليَّ..
عدنا إلى البيت, عدتُ انسانة غير مريضة, حرارتها مثل حرارة أختي و أخي و أمي و أبي, قطتي الفارسية لم أعد أغار منها, صرتُ ألعب و أنط مثلها, هل كانت الحمى يوم أمس مجرد كابوس؟.. كلما تذكرتُ حالتي الرهيبة أشفقتُ على جسدي, و الآن أشفقُ عليهِ أكثر لأن الحمى عاودته!. سيل جارف من الألم الحار يتدفق بي, أسقط عضوا فعضوا على سريري, الطبيب يطمئن أبي على الهاتف و يقول له ” الفيروس سينتهي خلال أيام”, خمس أيام من الموت القبيح, خمس أيام من الشلل و الانكسار و الذّل أمام الحمى, أغيب عن الوعي, أهلوس, أنهض, ينهض الوجع, الحرارة ترتفع, أرتفع إلى تلال الموت, السماء تبتعد.. تعال أيها الموت و خلصني من الحمى.
مبدعة دائماًماتشووفين شرتقبلي تحياتيعلياء
LikeLike
..نفس الأعراض والحكاية قبل أيام ولكن أخف من عنف الحمى هذهحتى بدأت أفكر أنه فيروس H1N1 ! ههههتؤرق أكثر من الخيانة الحمى !..كوثر ،،سلامتكومن ذلك النهر أتمنى لك ِ اغتسال !
LikeLike
………..
LikeLike
كوثرللأيام الحلوة التي مضتكوني بخير .
LikeLike
علياء البحرين اشتقتلك :)هذا أنا: الحمد لله ع سلامتك, و ابتعد عن شكوك H1N1 :(اسلام محمد: (f)***الصحة لكم..
LikeLike
الف سلامة عليكي يا اختي
LikeLike
رغم تأخري سأقرأوبكل الأوقات باذن لله سالمة
LikeLike