ما أسهل أن تضم جثة إلى صدرك

فراغ.. فراغ.. فراغ..
كم صرت أحسد الناس على انشغالهم بالهموم حتى بامتلاء أوقاتهم بالبحث عن الطعام..
أتصور نفسي لو أنني خلقتُ فقيرة: أم عجوز تضع نظارة سميكة,تسهر الليل و هي تخيط ملابس للأغنياء و ترقع ملابسنا نحن أبناءها, أب نحيل مثل هيكل عظمي طازج,يعود إلى البيت في منتصف الليل خائبا,مطرودا من العمل لأنه ضعيف جدا,فهو في الستينات من عمره,أدمن شرب الخمر منذ وقت مبكر,منذ يئس من أن يؤمن مستقبلنا نحن الصغار..
يا الله! على الأقل لن أجد متسعا من الوقت لأن أفكر بالجنس الآخر..و أخاف من نظرات الشيخ و هو خارج من المسجد,ينظر إليّ شزرا بخبث و كأنه اكتشف فسق أفكاري و ترف أحلامي..مع ذلك لا يعرف مدى فراغي..أخمن لو عرف بذلك, لألقى عليّ خطابا مطولا عن شرف الوجود و عن خطيئة الوجودية..فأنا أشعر بال”لاشيء”..سيرغبني بالجنة و سيرهبني بالنار إذا استهترت بوجودي كوني خلقت و انتهى الأمر,فبدل ذلك عليّ أن أصلي و أقوم الليل..إنه لا يقصد أن أقوم بمراسلته(الرجل الذي أحب) بل بعبادة الله و الدعاء و قراءة القرآن..
أمامي خياران: الفراغ أو الفراغ
سأختار الهروب, و أمارس لعبة النرد بهستيريا, و أدخن السجائر بحرية.. لن أسترق الأماكن لألتقي خلسة بمن أحب و لن أحمل معي ساعة لمواعيد النوم و الاستيقاظ و الذهاب إلى الحفلات الرسمية بأزياء ثمينة تشعرني بأنني أرتدي جلود الفقراء و هم يموتون بردا و جوعا, و يحرثون الأرض سعيا وراء بذرة تتلقفها الرياح بين عطور الأغنياء..
9 تشرين الثاني..
نزعت الورقة من الرزنامة. أصابعي ترتجف..أي حظ هذا!.طرقت الخادمة باب غرفتي,سلمتني الرسالة و انصرفت إلى عملها. ورقة صغيرة كتب عليها تاريخ ميلادي و قد دمغ في الوسط دمغا أحمرا,قرأت الكلمات حوله ” شهادة ميلاد القطة ميكا”..يصادف تاريخ ولادتي ولادة قطتنا!.. مكان الميلاد”برلين” أما أنا “غزة” مع هامش”لاجئة”. القطط أينما حلّت فهي مواطنة,الأرض مهيأة للحيوان وطن لا حدود له و بالتالي لا غربة أو منفى أو لجوء.. أي نوع من اللجوء سواء سياسي أم عاطفي أم غير ذلك..
سحبت معطفي و رميته على كتفي بسرعة..انسللت إلى سطح البيت من السلم الخلفي المؤدي إلى فوهة المدخنة-ببطئ لإلا لمحني أحدهم.. لا بد من الحذر حتى و إن كانوا غائبين في نومة منتصف الليل..
العتمة حالكة و السماء قاحلة من النجوم و ليس من نباح كلب يؤنس وحشة و صمت الليل.. سقطت قطرة مطر..توالت القطرات.. ثم انهمى بغزارة.. هرولت و إلتجأت تحت لوح الزينكو.. بثّ صوت ارتطام المطر باللوح الأمانَ فيّ.. أصختُ السمع إليه.. كان الصوت و كأنه ثرثرة أو نجوى ذات لغة تتفاهم معي حول شيء ما..
غزة نائمة.. تستحم بالمطر مثل عاهرة تبكي و تتوب.. البيوت مطفأة و أعمدة النور في الشوارع مضاءة بضوء يغلفه ضباب خفيف.. ثمة رجال في المعسكرات يتدربون على حمل السلاح و يخططون.. الثكنات البعيدة تبدو مثل حشرات برّاقة تومض أجنحتها و تتوعد بالسم..
توقف المطر.. خرجتُ من وكري.. لمحتُ كائنا يركض على الحائط القصير الذي يلف حواف السطح.. دب الخوف في..تحركت أقدامي بلا وعي إلى السلم.. دوي رصاص يخترق أذني من جهة الكائن.. تعثرت بذيل معطفي.. وقعت على الأرض..عاد الهدوء..كأن شيئا لم يحدث!..رأيت الكائن متمددا على الأرض.. زحفتُ نحوه.. أووه!..القطة تنزف..لقد أصابها الرصاص.. ربطت حول بطنها قطعة قماش ليحتقن دمها.. لكنها لفظت أنفاسها و ماتت..ضممتها إليّ..ما أسهل أن تضم جثة إلى صدرك..ابتل فروها بدموعي..حملتها و نزلت إلى غرفتي..لم أنم حتى آخرالليل,,بقيتُ أنتظر الصباح لتدفن الخادمةُ القطةَ..
كان العالم في أقصى درجات السكون.. و كان الفراغ يحفر فيّ مقابرا..تك..تك..بندول الساعة يدندن.. الدخان يتسرب من المدخنة..الجندي تحت الشرفة يصفر بفمه.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s