شرقية الجنووون

حدثتني من لها علم بي: عن العسس قالوا: عن حارس المقبرة قال: عن نفسي قالت: كانت امرأة صغيرة, حرارتها معتدلة, دقات قلبها طبيعية, ضغطها عادي.. لا تشتكي من هم و لا من نقص. حدث يوما أن مرّت بجانب مقهى دائما تمر عنه كتحية صباحية مارقة و لم تكن تفكر البتة بدخوله, من خلف زجاج واجهة المقهى ناداها رجل لا تعرفه.. ظنته النادل أو لا أحد سوى صوت قادم من الكوكب الحادي عشر!. سارت قدماها إليه دون أن يقول لها عقلها أي شيء.. و حين صارت المسافة بينهما أقرب من الشفة إلى الشفة, صاح عجوز يرتشف القهوة “فجور”, لم يبتعدا عن بعضيهما و التصقا أكثر.. شرطي المرور تسمّر بين السيارات المتوقفة من الأربع جهات, و أعلن صمته عن حدوث كارثة..
قالت نفسي: عن يومها الموعود قال: تأفأف الركاب و نزل السائقون من سياراتهم يصرخون في شرطي المرور بأن ينظم حركة السير, فإذا بالصعقة تصعقهم حين يرون أن اشارات المرور انطفأت!.. ضمّهم الخوف إلى بعضهم البعض عن السبب يتشاورون, فإذا كان المحتلين فربما هناك منع تجوال.. ذهبوا و التفوا حول شرطي المرور, مثل حلقة الجهلاء يتساءلون, فأشار بيده إلى واقعة الفجور قبل أن

يخبرهم ” عمّ يتساءلون”؟ فهموا و اكتشفوا الكارثة.. فتحاوروا على عجل دون اتفاق و أمروا بأن يسجن الفاجران أبدا بلا انعتاق..
انتخبوا شرطي المرور كقائد الهجوم, و ثبتوا أقدامهم في ظل الرياح و الصفير و النفير بعدما أعدوا عدتهم من صفوف الدفاع و الاحتياط, ثم ولّوا شطرهم تجاه قبلتهم كالفج العميق..
كانت المرأة تذوب كالآيس كريم.. و كان الرجل يعصر نهديها بكفّيه كالليمون فينز من حلمتيها ما لا يشبه الحليب.. ماء الأم قبل أن تئم طفلها.. يلحسه لحسا فيتذوق طمعه كأنه حساء شهي من ذاك الذي تحدثنا عنه الخرافات دون التصريح بالمكونات.. يلهث الرجل و يغرق المرأة بعرقه المتفصد و ببخار فمه الكثيف..
قالت نفسي: عن جسدي قال: نهضتُ من غيبوبتي.. وجدتني على سرير أبيض في غرفة مطلية جدرانها بالدهان الأبيض.. كان رأسي على وسادة بيضاء, و عيوني معلقة على السقف الأبيض, أدرت رأسي يمينا فإذا بعيني تصادف أنابيبا و خراطيما تدلي ألسنتها من أوردة يدي.. أدرت رأسي إلى الجهة اليسرى فإذا بها مثل اليمنى!.. ارتجفتُ و من شدة ارتجافي شعرت بأن الأنابيب تمزق لحمي.. صحتُ..لا لم أستطع ذلك, فقد كان فمي مكمما بقماشة بيضاء يتسرب منها أوكسجين ذو رائحة نفاذة.. و انثالت الأفكار تدمدم برأسي و الوسواس الخناس يوسوس بأذني: هل هذا هو الحكم الذي حكموه عليَّ؟ السجن المأبد في غرفة أشباح؟ أم أنهم أقاموا الحدّ عليّ بطريقة أطول تعذيبا ؟!..
حدثتني من لها علم بي: عن العسس قالوا: عن حارس المقبرة قال: عن نفسي قالت: كانت امرأة صغيرة, صارت كبيرة.. ما زالت تحتضر.. درجة حرارتها مرتفعة, ضغطها عالٍ, مريضة بالقلب, نبضات يدها تختلف عن نبضات قلبها و تختلف عن مخطط النبضات المرسومة على ورقة الفحوص الطبية..
إنها عاشقة شرقية.. و لكم أن تعرفوا البقية ..!!

17/2/2009/الثلاثاء
11:3 مساء

* اللوحة للفنان جون ويليام وتيرهوس

One thought on “شرقية الجنووون

  1. هي قبلة هي قبلة.استلهام رائع للسرد التراثي العريق، وتوظيف موفق في قصة قصيرة ذات موضوع إنساني وحضاري. رسم رائع للواقع: فانتازيا جميلة: كان الله في عون العشاق، وكان الله في عونهم على الواقع، وكان الله في عوننا على انفسنا. "أقاموا الحد عليَّ" تشير إلى المجتمع الظالم.من جهة أخرى، الراوي يروي القصة نقلاً عمن لها علم بي: عن العسس : عن حارس المقبرة عن نفسي — هكذا تصبح الرقابةالداخليةوعملاؤها (العسس وحارس المقبرة والنفس) الوسواس الخناس أو الضمير أخطر من المجتمع وأفكاره وأعرافه الظالمة.. إذن، هل نحن مستعدين نفسياً للتغيير!؟ على كلا الاحتمالين، القصة تعطيك مجالاً للتفسير.. شرقية الجنون نص – مشهد – قصة قصيرة رائعة. ربما السطر الأخير لا ضرورة له.من أساطيرك الأثيرة يا كوثر أبو هاني.

    Like

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s