ستكون له يدان

بعيدا عن حروبي الداخلية مع عاطفة البكاء, و أقرب من معركتي الخارجية مع تشوهاتي و غبائي في التعامل مع أيدي الرجال حين تصبح في يدي كنوع من التحية..
طارق..
الرجل الأول قبل أن أتعرف على يده الخشنة ذات الأصابع الطويلة التي يطل من رؤوسها الحمق, كلمني سبع مكالمات هاتفية بعدد أيام الأسبوع المنصرم على تلك اليد الشريرة التي ضغطت على يدي بعنف حتى سمعتُ صوت تكسّر عظام أصابعي.. كانت مكالماته الليلية أجمل من التي تكون في النهار -بالرغم من عدم تقبّلي لأي منهما-, فكأن للعتمة همسها الدافء في روحه !. يرنّ هاتفي الساعةَ الثانية منتصف الليل.. ليل الشتاء الطويل, ليقول لي صوتا مطعما بالجنون “غدا.. قررتُ أن يكون غدا”, أتنهد و أقول “أريد أن أنام”, يسارع في الرجاء خوفا من أن أغلق الخط في وجهه ” لا.. أرجوكِ أمهليني دقيقة واحدة كي لا أموت..”. أوبخ نفسي على فظاظتي معه فأقول ” ماذا؟”.. أتصوّر ارتياحه لحظتذاك فأراه يمسح بذراعه العرق عن جبينه و يضغط سماعة الهاتف على أذنه ليتأكد من اتصالي و يكمل لهاثه, يقول دون أن أخمّن كيف حال شفتاه و هما تحدثاني “تعالي غدا..نلتقي في المكتبة..”.

لا بد و أن رجال الأصفهاني الذين عشقوا نساءهم بأي طريقة و مصادفة..لا بد و أنهم سينفروا من صاحب هذه اليد العاشقة!. أول مرة رأيته فيها كانت في المكتبة العامة, كنتُ أمد يدي لسحب كتابا انتقته عيناي, ففوجئت بيد رجل تختطف الكتاب قبل أن تصله يدي.. يتلعثم الرجل و يعتذر متعمدا رغبة منه أن أردّ عليه و يكلمني, لكنني بقيتُ صامتة, شعرتُ بأنه يتهيأ ليقول شيئا ما, رفع الكتاب و وضعه على رأسه كمن يتظلل من الشمس و قال ” يحيرني اختيار الكتب حين تكون كثيرة”.. اقترحت ساخرة أن يقرأها كلها ليتخلص من حيرته و غادرت المكتبة..
كنتُ في ذلك اليوم ألامس اشتياقي لخالد..الرجل الذي انقطعت يداه أثناء الحرب.. كانت يداه تنتشلان جسد صديقه الجريح من بين الأجساد التي فقدت صلتها بالحياة و لم تستطع مقاومة الموت, إلا أن شظايا متطايرة من صاروخ قطعت يديه فأفلت الجسد منهما, و دفنت يداه فيما بعد مع جسد صديقه.. كان رجلا طيبا يفيض حنانا و يمطر حبا.. دائما أشتاق إليه و أفكر فيه, أين اختفى و ماذا حلّ به؟..هل غيّرته الحرب و قتلت حبنا و سهر الليالي التي أكبر من عمر الأرض ؟!..
حين وصلتُ باب شقتي القريبة من المكتبة, تذكّرتُ بأنني لن أستطيع دخول الشقة, لأن المفتاح في الحقيبة, و الحقيبة نسيتها في المكتبة!. أقفلتُ خائبة إلى المكتبة.. سألتُ موظفة الأمانات عن حقيبتي فبحثت عنها و لم تجدها, فكّرتُ وقلتُ ربما نسيتها في مكان غير المكتبة, إلا أنني أبعدتُ احتمال ذلك و شككتُ بأنني في الأصل لم أحمل حقيبة!.. وقفتُ على باب المكتبة متحيرة فيما سأفعله؟, ما الذي يحدث معي منذ الصباح؟ أنا حزينة لأن ذاكرتي هرمت.. يا للبؤس على امرأة صغيرة تحمل في رأسها الصغير ذاكرة عجوز..
هل أبات الليلة في الشارع و أكون وجبة عشاء شهية للمتسكعين و الكلاب الضالة!.. و زبال البلدية! مؤخرا شاعت عليه حكايا مخيفة تناقلتها العذراوات و ما زالن يؤمن بصدق الحكايا المخترعة عنه و لم أكن أصدق كلمة من ذلك الهراء.. ذرعت الشارع ذهابا و إيابا, طولا و عرضا كالبلهاء لا أدري بما يدور برأسي.. تحولت الحكايا في لحظة إلى أشباح تتقافز أمامي كالجنون الزرقاء.. تلبد فيّ الخوف, عليّ أن أجد طريقة لفتح باب شقتي و إن كانت بكسر الباب.
كان الزبال يمارس مهنته بكامل كرامته و حبه للحياة, يجمع القمامة التي تنتظره على عتبات البيوت و العمارات, يحمل الأكياس التي تنز قرفا و تتسرب منها روائح تثير الاشمئزاز.. يحملها كأن علاقة خفية ارتبطت بينه و بينها(الأكياس) منذ زمن مستعد لأن يُغيّر حدود العالم لأجل التقاء اللامعقول!. حمدتُ الله أن لم تكن قمامة ما تنتظره على باب شقتي, تنهدتُ و ارتحتُ إذ لن يقترب من بابي.. كنتُ أراقبه من بعيد.. ها هو ينصرف إلى البيوت المجاورة, هرولت إلى شقتي.. يا للغباء!, من يساعدني في دخول بيتي؟..
وقفتُ على بابي مثل ناطور البستان, الشمس تزحف نحو الغرب.. خوفي يزداد و اضطراب ينتابني كلما تسللت إلي حكاياهن عن الزبال.. أتذكر شكل الزبال حين رأيته و هو يجمع القمامة, فأقنع نفسي بأنه رجل طيب, سميح و عفيف!.. لم ألحظ ثمة ما يخيف و يقلق.. دائما الناس يخترعون الأكاذيب عن الضعفاء و الفقراء.
اقترحتُ على نفسي أن أقضي ليلتي عند صديقة, و أشكو مشكلتي لها لتساعدني!.
ذراعه تمتد أمامي, تعترض طريقي.. إنه نفس الرجل الذي التقيته في المكتبة صباح اليوم!. ارتفع حاجباي و جحظت عيناي, فوجئتُ بحقيبتي معه!, أخذتها مدهوشة و ممتنة!. شهقتُ ” أهذا أنت..شكرا..كنت أبحث عنها”. قال” و أنا بحثتُ عنكِ كثيرا لأعطيك اياها”. شكرته مرة أخرى و في الثالثة قبل أن أذهب صافحني بحرارة لم يكن لها داعٍ!.
.
قلتُ ” غدا..في المكتبة؟”, قال بلهفة” نعم..نعم..الساعة..آ..أنتِ حددي”, قلتُ “العاشرة صباحا”, صمت لبرهة ثم قال ” طيب. اسمعي. أريدكِ بهية و أنثى استثنائية..”..”اتفقنا”,”نعم”.
بعد أن انتهت المكالمة, سحبت سلك الهاتف من منبته في الجدار.. و رحتُ أحاول أن أنام بعد أن تلاشى النوم من عيوني.. كنتُ أفهم همس نبضاتي, و أشفق على قلبي من مضاضة الشوق.. مُر, طعمه مُرْ.. ماذا لو كان المتصل خالد؟.. يهاتفني ليليا و في الصباح يهاتفني على عجلة مثل أنشودة وطنية يجب انشادها كل صباح.. يتفق معي على موعد لقاء.. في أي مكان نلتقي فيه.. الحديقة العامة.. المكتبة.. على سطح العمارة.. مطعم بالميرا.. شارع الجندي المجهول.. الأمكنة تتحول إلى ساحرات صغيرات يلعبن مع الملائكة و يضحكن عشقا أبديا ينقشنه على جذوع الشجر..
في الصباح, أعددتُ نفسي للقاء طارق..
وقفتُ طويلا أمام المرآة, متأكدة من أن جمالي كان شاحبا و مريضا.. ارتديتُ قفازاتي و ذهبت إلى شوارع المدينة أجوسها بصخب كما و لو كانت هزائم العالم تتحطم على كتفي و تدفن في صدري.
سألتقيه ذات صدفة,يوما.. لن يكون نهرا أو حلما. سيكون أنهارا و أرضا خضراء و سماء زرقاء و ستكون له يدان و سنكون معا مثل فرخيْ حمامْ.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s