البيت الآخر

في مدرسة الوكالة التي اتخذناها كملجأ رسمي لنا, كن النسوة يمارسن حياتهن الطبيعيّة في وقت غير طبيعي.. ينشرن الغسيل على حبل السارية الذي قطعته الشظية, و أحيانا يغلين الشاي على الحطب في ساحة الملعب, و يرتشفنه مع أزواجهن وقت الصباح كلما شدّهن الحنين إلى صباحات السلام و الأمان.. أما أنا فلأن حياتي كانت غير معقولة, كنتُ في سجن تصطفق جدرانه الأربعة عليّ و لا أتنفس غير رائحة الموت, علاقتي بالأشياء كانت بالنظر,أنظر إليها بعينين أدماهما السهر..تعبت من الحربْ. فشلتُ في ابتكار احساس جديد مؤقت يساعدني على التعايش مع الحربْ.. و يئست من العودة إلى بيتنا الذي يعاني من وقوعه في منطقة الخطر, حتى البيت يعاني من الحرب!.
أتذكر ذلك الفجر الحزين الذي تركنا فيه بيتنا و نزحنا إلى بيتٍ آخر في منطقة أكثر أمانا, كان بيتنا في تلك اللحظة مثل حديقة خضراء تغتسل بماء الخريف, لم أتجرأ أن أستدير خلفي و أودع البيت, صعدت سيارة ابن عمتي أيمن الذي سيجازف بحياته معنا و يُهرّبنا إلى “البيت الآخر”.. كانت الطرق تعج بركام البيوت المنهارة على الجنبات, حجارة و زجاج و أعمدة كهرباء و خشب ينفث دخانا بنيا و وديان دماء تجري في منتصف الطريق كأنها الموت الأحمر.. كنا مستعدين لأي صاروخ يقصفنا.. استسلمتُ للبكاء و بكيتْ. كنتُ أموت ببطئ شديد.. ورائي تركتُ بيت الذكريات و مرتع الأحلام و سرير الدفء يوم لا دفء فيه إلاه..
كرهتُ ذلك البيت أكثر من كرهي للمدرسة, و منذ أن وطأته قدماي صرتُ أمقت البحر و العشب الأخضر.. كان البيت الواقع في منطقة الشيخ عجلين في الطابع الرابع من برج طويل- يبعث البؤس و الشؤم بي رغم موقعه الذي طالما تمنيّته: أمام البحر مباشرة و محوّط بحقول العنب و الخضروات و هنا شجرة البرتقال يفوح منها شذى مسكرا..
لم يكن ذلك البيت يصلح للأمان, اختار أبي العش الخطأ لعصافيره الصغار, فالطرادات الحربية تضرب القذائف على السواحل الهاجعة أمام الشاطئ المسكون بالألغام, و الدبابات تجتاح البر و الجيش الاسرائيلي بدأ عمليته البرية المرقمة حربيا بالرقم “3”(أي المرحلة الثالثة من الحرب على غزة).. حزمنا أكياس البقول التي هي قوتنا الوحيد خلال الحرب, و حملت أمي حقيبة الكوشان و كرت التموين.. و مجموعة الأوراق الرسيمة التي تدل علينا “الهوية”, ثم هرّبتنا سيارة استأجرها أبي من أحد مكاتب المواصلات إلى الملجأ الأخير و الوحيد لنا من بعد ذلك البيت: مدرسة الزيتون الابتدائية المشتركة للاجئين. و بالرغم من أن مكان المدرسة كان الأخطر من أي مكان إلا أن ” الموت مع الجماعة أرحم “. و لم نكن هناك وحيدين.. فوجئنا بعشرات اللاجئين النازحين..

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s