شعرتُ أن هذه اللحظة ستكون قَدَر عيني, و أنني سأتابع الحياة بعين واحدة.. أرى ما أرى من جانب واحد و النصف الآخر من معالم الأشياء يختفي في عتمة عيني الأخرى.. وضعتُ يدي على عيني فإذا بالدم يتدفق بغزارة من بين أصابعي كينبوع حار تفجّر من باطن أرض بعيدة.. سحبتُ من جيب معطفي قطعة قماش صغيرة و غطّيتُ بها عيني, إلا أن الدم أغرقها وأحال لونها الأبيض إلى لون أحمر قان, أبعدتها و قذفتها بعصبية من نافذة السيارة, و فضلت أن أضع يدي بدلا عنها حتى و إن سال الدم على المعطف و بقّعه..
كان الجو ما يزال باردا, لا سيما و أن عقارب الساعة تلدغ منتصف الليل.. بدأت الأمطار تهطل, و تصدر مع حبات البَرَد حين ترتطم بسقف السيارة صوتَ قرقعة مزعجا.. نظرتُ بطرف العين الأخرى إلى أمي, كانت تقاوم النعاس بأي طريقة لإلا غفت عني, و بدوري لم أبدِ أي علامة وجع أو قلق على حالتي, فكنت أبتسم لها بين الفينة و الأخرى و خلف شفتاي يختفي وجع الدم..
أضاء السائق ضوء السيارة البارز في مقدمتها, كان النور مشتتا مثل رشات ماء, خافتا متأرجحا لا يعين العين على تفحص الطريق, فلم أستطِع رؤية شيء, كل ما كنت أستطيع أن أراه هو ظلال المارة و الرجال الخارجين من المقاهي-ترتمي بطولها على الرصيف و تنكسر على الأجساد حين تحتك بأكتاف بعضها..
تمنيت لو تنفرش النجوم على الأرض, لأرى ما أريد.. المدينة معتمة و عيني مدمية.. ربما كل الطرق التي مرت بها السيارة مررت بها من قبل, لقد ميّزتُ معظمها من رائحتها الأليفة.. رائحة الهال المتصاعد من فناجين القهوة.. رائحة العطور المتنقلة بين ثياب العاشقين.. و حفيف الأحذية و طقطقة كعوب النساء..
توقفت السيارة. نزلتُ مع دوار خفيف برأسي.. نَقَدت أمي السائق و أسرعت لتمسك بيدي.. ابتعدنا إلى الرصيف و سارت السيارة إلى أن اختفت وراء جدار أسود من حلكة الليل..
دخلنا بوابة المستشفى, كان على عتبتها الكبيرة ينتشر باعة الورود و باعة الجرائد التي طالما اشتراها المهتمون بقراءة الوفيّات و تهاني الخروج بالسلامة من المستشفى!.. تنمّل بداخلي نبض أحمق حين اقترب مني مراهق يمد بيده الجريدة إليّ كي أشتريها, قلتُ” لربما كان اسمي من بين الوفيّات “.. تسمّرتُ أمامه, فإذا بيد أمي تشدني و وجدتني في غرفة الطوارئ الليلية..
جلستُ على المقعد أمام موظف الاستقبال, حكت له أمي المشكلة بايجاز و صوتها يرتجف يتدحرج من حنجرة تراكم الدمع فيها.. بعد دقائق جاء طبيب العيون و أخذني إلى غرفة الفحص, جلستُ أمام الجهاز الدقيق فيما جلس(الطبيب)خلفه و أشار إلى أن أضع عيني قبالة العدسة الزجاجية, وضعتها و سلط الضوء عليها فيما شرع يفحصها(عيني)بنظراته المخبرية..
انتهى الفحص. قال الطبيب ببساطة “اطمئنوا.. الجرح بسيط “, تنهدت أمي و قالت بامتنان ” شكرا “. أعطاني الطبيب مرهم و قطرة خاصة لتسمم العين, نظر إليّ بعينيه الخضراوين نظرة صارمة و قال ” أظافر القطط خطيرة..انتبهي”, ثم مسح الدم عن عيني بمنديل أبيض مُعقَّم, و غادرنا المستشفى..
كانت الطرق تغطُ في عتمة عميقة, تخترقها عيون و اشارات المرور..و ما أن وصلت الدار؛ غسلتُ يدايَ من دم عيني. و نمتْ.