كانت المدينة تغرق في الصمت بيتا فبيتا,حتى إذا حلّ الليل و أنشب نجومه في السماء السوداء انطفأت المصابيح و خَبَت أنوار القناديل الصغيرة المتدلية فوق عتبات البيوت كي تضيء الشوارع..كان الليل في تلك اللحظات رهيبا و أطول ما يمكن تخيله لزمن بلا انتهاء ..و كان القمر في أوج اكتماله,جالسا على قمة الجبل مثل جندي يترصّد تحركات انسان لا بد من ملاحقته..
أمّا غرفتها فقد كانت هي الوحيدة المضاءة من بين كل بيوت المدينة..بقيت المرأة محتفظة بروتين ساعاتها,ففي مثل هذا الوقت الباكر من الليل ,تذهب إلى المطبخ و تعد عشاءها الخفيف ثم بعد ذلك تختار كتابا آخرا لتقرأه إلى أن يغلبها النعاس و تنام..
تناولت بيدها الكتاب و جلست إلى طاولتها الخشبية الواطئة المركونة تحت شباك غرفتها,و شرعت في قراءة الصفحة الاولى..قبل أن تقلب الصفحة لاحظت خطا باهتا باللون الأحمر مرسوما تحت كلمة موعد,توقفت عند الكلمة ,و أغلقت الكتاب بقوة..
أثناء ذلك كان اضطراب الجيران يتكاثر من الضوء المنبعث من غرفتها,ظنوا أن المرأة جُنّت أو أنها لَمْ تسمع عمّا سيحدث الليلة,النساء قُلنَ أن المرأة متأثرة بوضع المدينة البائس,أمّا الرجال فخمنوا أنها تتحدى شبح الليل بضوئها,بينما تضاحك الأطفال من الكلام عن المرأة و ضوئها و فرحوا لأجلها و لَمْ يكفّوا عن الدعاء لها لأنها آنستهم بضوئها و درأت عنهم وحشة النوم في العتمة السحيقة..
وضعت الكتاب على حافة الشباك المفتوح و هدهدت نفسها ريثما ترتدي أجمل فساتينها,اختارت فستانا لونه أسود و بعدما ارتدته لفت حول خصرتيها شريطا فسفوريا لامعا..
و قبل أن تغادر الغرفة نظرت إلى وجهها في المرآة,ابتسمت كأنها تبتسم لوجه آخر, و قالت في نفسها”لتكن أسطورة أو فضيحة عندهم”,فَرَدَتْ شَعرها و شَعَرت بأنها على موعد مع ملاكين:هُوَ و ملك الموت !.كادت تبكي لكنها حبست دموعها و تراجعت عن يأس مفاجئ اغتال روحها..
وضعت المفتاح في ثقبه الصغير في الباب, دوّرته,بعد دورة ارتجفت أصابع يدها فيما أمسكت اليد الأخرى بالأكرة و تشبثت بها..دوّى انفجار غامض في الحارة الخلفيّة,ثم توالت الانفجارات تدوي في كل مكان..
قالت جارتها و هي تتنهد ” الآن سينطفئ ضوء المرأة “. بكى ابنها الصغير من تحت الشرشف و هو يصرخ ” ابقوا مصباحها مضاء “,نهرته أمه,لكنها بعد لحظات قصيرة نزعت عنه الشرشف و ضمته إلى صدرها بسطوة حنان الأم الخائفة من المجهول..
بقيت المرأة متسمّرة أمام الباب, و بقيت دورةً واحدة كي ينفتح و تخرج..فجأة توقف الدوي,فأحست نوعا ما بالطمأنينة,تنفست عميقا و أخذت تدير المفتاح..في منتصف الدورة عادت الانفجارات تُسمع و تَرى لها ضوءا هائلا ينتشر على شكل دوائر نارية مريعة..توقفت المرأة عند المنتصف و توقفت الانفجارات لوهلة إلا أنها تتابعت بعد ذلك و زحفت لمسافات قريبة من المكان, و صار يُسمع أزيز رصاص ينطلق من كل اتجاه ,يمكن تحديد مصدره من البريق المفاجئ الذي ينبثق من فوهة البنادق الخفية..
دَبّ الرعب قلوب الأطفال,فدعت أمهاتهم على الساعة التي أضاءت فيها المرأة مصباح غرفتها..و في ذات أنفسهم(الأطفال)كانوا يدعون الله ألا ينطفئ مصباحها..الطفل الذي بكى هلعا حين هشّم الرصاص زجاج النوافذ سكتَ بعدما تذكّر الضوء و لمحه ما يزال يشع..
توزّعت الدبابات في الشوارع, و تقسّم الجنود بحذر,بعضهم فوق الطوابق الأخيرة من العمارات منتصبين قناصاتهم,و الآخرون انتشروا كالعسس الغليلة تحت شرفات البيوت و عند العتبات و أمام المحال و الدكاكين.. في كل مكان.. بعد دقائق علا صوت مُعرّب من مكبر الصوت يأمر بمنع التجول,أي كائن و إن حشرة سيتم قتلها إذا ما تحركت في الشارع..
سمعت المرأة أوامر الجند,منع التجول؟!..و الموعد؟!.. تهالكت عند الباب,لَمْ تتحامل قدماها ثقلها فوقعت على الأرض..
كانت شجرة الجميز الضخمة قد احترقت أوراقها,أما الغصن المتفرع داخلا من خلال الشباك غرفتها فقطعته شظية حادة و سقط على الطاولة مع الكتاب..
توسّدت المرأة رأسها بذراعيها و بكت بحرقة دموعا لاذعة,إلا أنها لملمت نفسها و وقفت و دوّرت النصف الأخير من دورة المفتاح,فانفتح الباب و دلفت إلى الشارع تاركة خلفها غرفتها مفتوحة يفضحها ضوء المصباح..
ركضت و لم يكن الجنود قد اكتشفوا خروجها بَعْد..ركضت بأقصى ما اشتعلت فيها سرعة..لا بد و أنه الآن ما يزال ينتظرها في الحديقة العامة دون يأس.عند المنعطف توقفت قليلا لتلتقط أنفاسها و تتابع الركض إليه,مقامِرة بروحها للخطر و الموت لأجله..أسندت ظهرها على الجدار و هي تلهث و تتنفّس بصعوبة,رفعت كتفيها إلى أعلى و اختزلت نفسا عميقا واسعا في رئتيها لتكمل الطريق..و ما أنْ ركضت قُدما بضع خطوات حتى اندلق عليها بغتة ضوء ساطع من كشّاف الجنود,عرفت أنهم رأوها فصارت تركض بجنون تجاه الحديقة , و الجنود و الرصاص و الموت يلاحقونها .. خلال ذلك كان الناس قد فتحوا نوافذهم و اشرأبت عيونهم تلاحق ببصرها المرأة..انقبضت رئاتهم و انحبست أنفاسهم فيها من شدة الخوف على المرأة..توالد في دواخلهم إحساس عاتٍ لم يستطيعوا معرفته أو التخلص منه..
حين وصلت المرأة الحديقة كان ينتظرها هناك..سحبها الرجل من ذراعها و ضمها إلى صدره بعنف حتى صدر صوت احتكاك عظام قفصيهما الصدري بعضهما ببعض..رفع رأسها إلى وجهه بكفيّه و مصّ شفتيها..بينما كانت الدبابات قد سوّرت الحديقة..أما الجنود المحاصِرون فقد تسمّروا عند المدخل مشدوهين مذهولين أمام المنظر الجريء و الجميل كأنهم تحوّلوا إلى أصناما حجرية..
الجنود و الدبابات و الرصاص و الانفجارات و … كل شيء توقّف و أطبق صمت لعين يرفرف كالشبح, و كأن سحرا هائلا اجتاحهم و سيطر عليهم !
تعلقت عيون الجنود على المرأة و الرجل,كانا يتعانقان بصمت هائج, و حين ابتعدا عن بعضيهما نزل مَن كان ماكثا في دبابته, و تكاثر عدد الجنود حول المرأة و الرجل, و بقيت عيونهم معلقة عليهما, و كلما ازدادت المسافة بينهما(المرأة و الرجل)كلما تلألأت العيون رجاءً بأن يعودا لبعضيهما..كانت العيون تتوسل العناق مرة أخرى و قتل تلك المسافات التي تتسع بينهما.
اقتربت المرأة من مدخل الحديقة و بقيَ الرجل واقفا بسكون مأخوذا بعطرها الذي التصق على صدره..
في ذلك الليل الطويل, و بعدما انتهى منع التجول في المدينة و انسحب الاحتلال؛خرج الناس من بيوتهم و انعتقت أنفاسهم المحتبسة منطلقة في عنان الفضاء بأمان..و قرروا أن لا يطفئوا الأضواء لأي سبب كان..
أمّا غرفتها فقد كانت هي الوحيدة المضاءة من بين كل بيوت المدينة..بقيت المرأة محتفظة بروتين ساعاتها,ففي مثل هذا الوقت الباكر من الليل ,تذهب إلى المطبخ و تعد عشاءها الخفيف ثم بعد ذلك تختار كتابا آخرا لتقرأه إلى أن يغلبها النعاس و تنام..
تناولت بيدها الكتاب و جلست إلى طاولتها الخشبية الواطئة المركونة تحت شباك غرفتها,و شرعت في قراءة الصفحة الاولى..قبل أن تقلب الصفحة لاحظت خطا باهتا باللون الأحمر مرسوما تحت كلمة موعد,توقفت عند الكلمة ,و أغلقت الكتاب بقوة..
أثناء ذلك كان اضطراب الجيران يتكاثر من الضوء المنبعث من غرفتها,ظنوا أن المرأة جُنّت أو أنها لَمْ تسمع عمّا سيحدث الليلة,النساء قُلنَ أن المرأة متأثرة بوضع المدينة البائس,أمّا الرجال فخمنوا أنها تتحدى شبح الليل بضوئها,بينما تضاحك الأطفال من الكلام عن المرأة و ضوئها و فرحوا لأجلها و لَمْ يكفّوا عن الدعاء لها لأنها آنستهم بضوئها و درأت عنهم وحشة النوم في العتمة السحيقة..
وضعت الكتاب على حافة الشباك المفتوح و هدهدت نفسها ريثما ترتدي أجمل فساتينها,اختارت فستانا لونه أسود و بعدما ارتدته لفت حول خصرتيها شريطا فسفوريا لامعا..
و قبل أن تغادر الغرفة نظرت إلى وجهها في المرآة,ابتسمت كأنها تبتسم لوجه آخر, و قالت في نفسها”لتكن أسطورة أو فضيحة عندهم”,فَرَدَتْ شَعرها و شَعَرت بأنها على موعد مع ملاكين:هُوَ و ملك الموت !.كادت تبكي لكنها حبست دموعها و تراجعت عن يأس مفاجئ اغتال روحها..
وضعت المفتاح في ثقبه الصغير في الباب, دوّرته,بعد دورة ارتجفت أصابع يدها فيما أمسكت اليد الأخرى بالأكرة و تشبثت بها..دوّى انفجار غامض في الحارة الخلفيّة,ثم توالت الانفجارات تدوي في كل مكان..
قالت جارتها و هي تتنهد ” الآن سينطفئ ضوء المرأة “. بكى ابنها الصغير من تحت الشرشف و هو يصرخ ” ابقوا مصباحها مضاء “,نهرته أمه,لكنها بعد لحظات قصيرة نزعت عنه الشرشف و ضمته إلى صدرها بسطوة حنان الأم الخائفة من المجهول..
بقيت المرأة متسمّرة أمام الباب, و بقيت دورةً واحدة كي ينفتح و تخرج..فجأة توقف الدوي,فأحست نوعا ما بالطمأنينة,تنفست عميقا و أخذت تدير المفتاح..في منتصف الدورة عادت الانفجارات تُسمع و تَرى لها ضوءا هائلا ينتشر على شكل دوائر نارية مريعة..توقفت المرأة عند المنتصف و توقفت الانفجارات لوهلة إلا أنها تتابعت بعد ذلك و زحفت لمسافات قريبة من المكان, و صار يُسمع أزيز رصاص ينطلق من كل اتجاه ,يمكن تحديد مصدره من البريق المفاجئ الذي ينبثق من فوهة البنادق الخفية..
دَبّ الرعب قلوب الأطفال,فدعت أمهاتهم على الساعة التي أضاءت فيها المرأة مصباح غرفتها..و في ذات أنفسهم(الأطفال)كانوا يدعون الله ألا ينطفئ مصباحها..الطفل الذي بكى هلعا حين هشّم الرصاص زجاج النوافذ سكتَ بعدما تذكّر الضوء و لمحه ما يزال يشع..
توزّعت الدبابات في الشوارع, و تقسّم الجنود بحذر,بعضهم فوق الطوابق الأخيرة من العمارات منتصبين قناصاتهم,و الآخرون انتشروا كالعسس الغليلة تحت شرفات البيوت و عند العتبات و أمام المحال و الدكاكين.. في كل مكان.. بعد دقائق علا صوت مُعرّب من مكبر الصوت يأمر بمنع التجول,أي كائن و إن حشرة سيتم قتلها إذا ما تحركت في الشارع..
سمعت المرأة أوامر الجند,منع التجول؟!..و الموعد؟!.. تهالكت عند الباب,لَمْ تتحامل قدماها ثقلها فوقعت على الأرض..
كانت شجرة الجميز الضخمة قد احترقت أوراقها,أما الغصن المتفرع داخلا من خلال الشباك غرفتها فقطعته شظية حادة و سقط على الطاولة مع الكتاب..
توسّدت المرأة رأسها بذراعيها و بكت بحرقة دموعا لاذعة,إلا أنها لملمت نفسها و وقفت و دوّرت النصف الأخير من دورة المفتاح,فانفتح الباب و دلفت إلى الشارع تاركة خلفها غرفتها مفتوحة يفضحها ضوء المصباح..
ركضت و لم يكن الجنود قد اكتشفوا خروجها بَعْد..ركضت بأقصى ما اشتعلت فيها سرعة..لا بد و أنه الآن ما يزال ينتظرها في الحديقة العامة دون يأس.عند المنعطف توقفت قليلا لتلتقط أنفاسها و تتابع الركض إليه,مقامِرة بروحها للخطر و الموت لأجله..أسندت ظهرها على الجدار و هي تلهث و تتنفّس بصعوبة,رفعت كتفيها إلى أعلى و اختزلت نفسا عميقا واسعا في رئتيها لتكمل الطريق..و ما أنْ ركضت قُدما بضع خطوات حتى اندلق عليها بغتة ضوء ساطع من كشّاف الجنود,عرفت أنهم رأوها فصارت تركض بجنون تجاه الحديقة , و الجنود و الرصاص و الموت يلاحقونها .. خلال ذلك كان الناس قد فتحوا نوافذهم و اشرأبت عيونهم تلاحق ببصرها المرأة..انقبضت رئاتهم و انحبست أنفاسهم فيها من شدة الخوف على المرأة..توالد في دواخلهم إحساس عاتٍ لم يستطيعوا معرفته أو التخلص منه..
حين وصلت المرأة الحديقة كان ينتظرها هناك..سحبها الرجل من ذراعها و ضمها إلى صدره بعنف حتى صدر صوت احتكاك عظام قفصيهما الصدري بعضهما ببعض..رفع رأسها إلى وجهه بكفيّه و مصّ شفتيها..بينما كانت الدبابات قد سوّرت الحديقة..أما الجنود المحاصِرون فقد تسمّروا عند المدخل مشدوهين مذهولين أمام المنظر الجريء و الجميل كأنهم تحوّلوا إلى أصناما حجرية..
الجنود و الدبابات و الرصاص و الانفجارات و … كل شيء توقّف و أطبق صمت لعين يرفرف كالشبح, و كأن سحرا هائلا اجتاحهم و سيطر عليهم !
تعلقت عيون الجنود على المرأة و الرجل,كانا يتعانقان بصمت هائج, و حين ابتعدا عن بعضيهما نزل مَن كان ماكثا في دبابته, و تكاثر عدد الجنود حول المرأة و الرجل, و بقيت عيونهم معلقة عليهما, و كلما ازدادت المسافة بينهما(المرأة و الرجل)كلما تلألأت العيون رجاءً بأن يعودا لبعضيهما..كانت العيون تتوسل العناق مرة أخرى و قتل تلك المسافات التي تتسع بينهما.
اقتربت المرأة من مدخل الحديقة و بقيَ الرجل واقفا بسكون مأخوذا بعطرها الذي التصق على صدره..
في ذلك الليل الطويل, و بعدما انتهى منع التجول في المدينة و انسحب الاحتلال؛خرج الناس من بيوتهم و انعتقت أنفاسهم المحتبسة منطلقة في عنان الفضاء بأمان..و قرروا أن لا يطفئوا الأضواء لأي سبب كان..
تعبير رائع يدل على رافهية الاحساس والمشاعر رااااائع
LikeLike