الهدية

بعد أيام قليلة تُعد على الأصابع , سأرحل إلى رام الله . فقد يئست من حب غزة , و اختنقت من هوائها الملوث بزفرات اللاجئين و البائسين و اليائسين .
صومعت أفكاري لأرتب بعثرتها , و أستطيع معرفة ما سأفعله في الأيام الأخيرة المهملة في غزة . وَمَضت في خاطري فكرة . تلقّفت حقيبتي و أسرعت إلى بائع المجوهرات .. و هناك طلبت منه عقدًا يشبه الملفوف حول عنقي . في نهايته يتدلى قلبين مندمجين في بعضهما البعض بالتحام قوي .
في ليلة الرحيل سألني و قد كنا نتأمل منظر غزة من أعلى طابق في البرج و هي غارقة في نور المحاق : هل ستتذكرين هذه الفتاة المشرّدة ؟!
نبرت : … و الجراح و الدموع و القهر .. و الجدران الملطخة بالدماء و أسماء من استشهدوا في الحواري ..
قاطعني و قال ببراءة : رماللة حلوة
– هوا بس حلوة .. و مش بس غنوة .. هيا الجنة ..
زفر بدون وعي . و أطبق الصمت في المكان . لم أعد أسمع غير هدير محركات السيارات تصخب .
كانت عيناه تجوسان سطح غزة كصقر مكسور الجناح . في تلك اللحظة أمضّني مظهره المثير للشفقة . ضحكت آنها في قلبي بوجع . لا .. لم يكن ذلك ضحكًا ؛ بل كان أنينًا ما .
قلت بحزن ممزوج بالفرح و أنا أشير بابهامي نحو جهة الشمال : شوف رمالله .. حتى الليل عندها نهار .
لم يلتفت إلى حيث أشرت . قال ساخرًا : و شو عرّفك إنه رمالله في هالإتجاه .
– كل مدن و قرى فلسطين تقع في الشمال , إلا غزة في الجنوب .
– ممتازة في الجغرافيا !!
اختلجت شفتايَ استعدادًا للبكاء . حبست دموعي و تماسكت. قلت بصوت ضمّخه الشجن : إذا بلدنا لا نعرف عنه شيء .. فكيف نغرز إبرة البوصلة باتجاه لا شك فيه , فنقول : الشمال لحيفا أو الجنوب لرام الله أو الشرق للقدس !؟
حملق في وجهي .. و قد بدا شازب , لا رغبة لديه في الجدل.
– ليلة غدافية الإهاب
استعجلت : لأن القمر في طور المحاق
– بل لأن صغيرة مثلك سترحل غدًا
– و هل تسمي الإقامة في مدينة أخرى بذات الوطن رحيل !
– فقط في وطننا المُقطّع .
كان يتكلم و على لسانه الكثير من الكلام الذي لن يفلح في تفريجه – كما يتمنى – في هذه اللحظات الأخيرة .
– لمن اشتريت العقد أبو القلبين ؟!
– لأهديه لأول من أراه حين أرحل من غزة .
حين انتهى الليل و نام الفجر و مدت الشمس أطنابها , جاء و أوصلني إلى الحدود ..
اجتزت نقطة التفتيش , حتى صرت في كوكب و هو في كوكب آخر , تفصلنا مسافات مستحيلة ! .. بينها أسلاك شائكة .. و حقل ألغام .. و سحب رصاص .. و غيوم دخان .. ككل شيءٍ .. شيءٍ ..
مدّ يده و صافحني من بين الأسلاك .. دعا لي بالتوفيق دعواتٍ فيها صوت دافئ كالأم , ثم مشيت بارتجاف إلى رام الله .. و وجهه بتفاصيل جسده شيئًا فشيئًا تتلاشى مع ثبوته في مكانه !
صرت أركض .. أركض و أنا ألهث ككلب جائع و لعابي يندلق من لساني ..
نبحت : راا..ااام الله …. رااااام الله ..
أنتِ أول من رأيتْ .
لكِ الع… ـــقد ..

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s