المنتظرون بين غيوم الأرض

رفع أخي الصغير القطة السوداء إلى أقصى ما استطاعت ذراعيه , قال و ضحكاته تمط مع مواء القطة : أتعلمين لماذا الوادي لا يجف ؟ – صمتَ – ثم تابع و كأنه شعر بأن مواء القطة المتواصل لهفةٌ تنتظر منه اجابة : لأن مجاري المخيم تصب فيه .
وادي غزة ! متى آخر مرة التقينا . على ما أذكر كانت و أنا في الصف الثاني الابتدائي , أثناء رحلة مدرسية . يومها حين وصلنا الوادي قال لنا مرشد الرحلة مترجلا : على يساركم – الآن – ترون وادي غزة ..بعدها مباشرة شهق الطلاب الصغار – و أنا من بينهم – : ” وادي ! ..أغلق الجميع فتحات أنوفهم بأصابعهم و هم يتأفأفون ” شو هاد ..وادي ولا وحل ” , لم يتوقف الباص وأسرع السائق في المرور عن الوادي و رائحته الكريهة .
تذكّرتْ ؛ كنتُ وقتذاك صديقة حميمة لطفل بعمري اسمه رمزي , كان الوحيد من بيننا يحمل ساعة في جيبه , و مع أنه لم يكن يعرف الوقت إلا أنني لاحظت و بدافع غريب أنه يظل باستمرار يحملق فيها , سألته مرة عن السبب , ففاجأني بأن مدّ الساعة إليّ و أشار بسببابته إلى العقرب الطويل و قال : “أبي أخبرني أن هذا العقرب حين وصل يصل الرقم 5 فجرا سنعود إلى القدس . قال و كأن أبيه قد تعب في تحفيظه إياه هذا الجواب ! .
أحسست بخدر غامض تشظى في صدري .. القدس ؟ علمتُ انها عاصمتنا من درس التاريخ , غير ذلك عرفته بعدما كبرت و قرأتُ اسمي بين أسماء اللاجئين في المخيم ..صحيح؛ انتبهت و دون أن أعير ذلك اهتمام أن ساعة رمزي لم تكن تعمل , متوقفة تماما كقلب لا ينبض ..

ياااالله ! وادي غزة و أخي و القطة , كل شيء صار يمت لشيء بصلة سريالية لا علاقة لها بالآخر : العاقل و الجماد ,. البرد و الحَر , الحاضر و الماضي , الذكريات و القادم من مستودع الأيام ..العاقل و الحَر , الحاضر و الحجر ..واعكس الكلام , و لا تهلوس معي !!
وقفتُ عن الكرسي . مال جسدي نحو النافذة : جثة متعفنة يغزوها البعوض و الحشرات كان اسمها وادي ..انحدرت دمعة من عيني و استقرت على البلاط , صنعت في انحدارها خطا لاذعا على عنقي ..مسحته بالمنديل و رحتُ إلى أخي ..سحبتُ القطة منه , فصاح : حشكيك لعمو رمزي ..هاتيها..
تشبثت بالقطة , وقلتُ ( صوتي يترجرج مثل قطرة ماء في صهريج حار ) : عمو رمزي ؟, صاح أخي مرة أخرى دون أن يسمعني ” هاتي البسة “..
قلتُ و ما يزال صوتي تحت تأثير الدهشة ” لن أعطيك البسة إلا إذا أخذتني إلى عمو رمزي ” , رفع رأسه إليّ – قطب حاجبيه – قال بامتعاض ” طيّبْ “..
أمسك يدي و ركض بي إلى جارنا أبو سامي .طرق الباب و قال ( أخي ) ” وين عمو ؟”. دقائق وخرج لنا العم رمزي . صاح أخي ” عمو ..كوسر اخدت البسة إلّ أنطيتني اياها ” . نظر إليّ الرجل و قال بعطف : رجعيها للبنيْ. حدّقتُ في وجهه . دارت عيناي في كل اتجاه , تتفحص كالمجهر ملامحهُ , لا شبه بين هذا الرجل و الطفل.. رمزي صديق الطفولة !
أعطيت القطة لأخي , فإذا برنين ما يصدر من جيب الرجل , أخرج ساعةً ما يزال رنينها للآن يصدح في أذني ..مددت رأسي : العقرب يشير إلى الرقم 5 ! . قلتُ منذهلة : أنتَ رمزي حامد ؟ .دس الساعة في جيب قميصة و قال بهدوء ” نعم ” . قلتُ بحدة : ألم تعرفنِ ؟ ..هل تتذكر كوثر التي كانت معك في الصف الثاني ابتدائي!
قال و سكونه يُشعل دم أعصابي : جارْتي وْ منا دارِي ! ..والوادي نِسْيانِ وْ سقاني.. ثم انتثرت ضحكاته بين ذرات الهواء , قلت ” كم الساعة الآن ؟ ,قال :5
أخذت منه الساعة التي كانت معه قبل عشر سنوات : حرارة تُشع من رقاقة الحديد السفلية ..دافئة ..غطت البطارية ليمشي العقرب و تستمر الحياة و الانتظار !

Leave a comment