الممرضة البائسة


كلما همّ أحدهم بمغادرة المستشفى,تمنيت لو أكون أي شيء يُدس في حقائبهم,كفرشاة أسنان,أو أن أطوى بين البيجامات,و أحمل معهم إلى حيث تأخذني أقدامهم ..
فقد قرفت حياتي الجوّابة بين غرف قميئة ألِفَتْ جدرانها ضجر روحي , و ترحالي بين المرضى . .أُعطِ هذا دواءه مُوقّعًا ببسمة تندلق من شفتايَ كالسم – دون أن يعلم أحدهم بذلك – .و آخر أقيس ضغطه,أتأكد من أنه طبيعي,بينما أنا في حالة غير طبيعية.حالة هستيريا ترتفع و تهبط كالترمومتر..في السرير المحاذي للنافذة,يرتمي رجل أُصيب بالعمى منذ قرابة الأسبوعين.تعيّن عليّ أن أكون ممرضته و تحت خدمته أربعَ و عشرين ساعة – بالتمام و الكمال -.و هذا اليوم الأول لخدمتي اياه إلى أن يحين خُروجه مُعافًا ! .
لا أعرف كيف أتعامل معه ؟!,مُضرب عن الأكل و الشرب و الكلام ! .. و كلما قسوتُ عليه و ألقمته الخبز,صار ينزع أنبوب المحلول من وريده,و يصرخ..فتتناثر قطرات الدم على الشرشف الأبيض..فيهرول الزوّار المجاورين لتهدأته,و تثبيته في مكانه,إلى أن يستعجل أحد الأطباء و يُعطِهِ ابرة مخدّر .
في الساعات الأولى من اليوم الأول معه,هكذا ! ..فكيف غدًا,و بعد غد ..ماذا عن كل هذا الملل و النفور الثائر بي !..كيف سأحتمل أكثر مما احتملت؛لأجل استمرارية الحياة و الشؤم في مستشفى أمراض نفسية ؟!
في الليل نامْ,و نامَ الجميع.بقيتُ مُتخشّبةً على الكرسي بجانب سريره,أسترق النظر إلى قطعة السماء المربعة التي هي الحيلة المتوفرة من نافذة مسيّجة بالحديد الصلب.تذكرت أن الرجل لم يُفرغ أغراضه من الحقيبة.أفرغتها في صندوق منسي تحت السرير.كانت بيجامة زرقاء بلون عينيه,و نظارة سوداء,و نوتة صغيرة..فتحتها فقرأت : ” نحن الذين نسير لا ذكرى لنا,لا حلم,لا أشواق تشرق,لا منى..آفاق أعيننا رماد*..”
لا أريد أكثر و لا أقل..خروجي من المستشفى بملابسَ امرأة في أواخر عشرينيّاتها,ناعمة, أنيقة التفاصيل,يكفي لأن أكون حقًا قد نجيت من تجاعيد الزمن – هنا ..
” نودّ لو متنا فترفضنا القبور ..”
أي رجل أعمى يقرأ الحزن و الموت دون عين ؟..!؟
– ماء ..ما ..م ..
صعقني بصراخه المفاجئ..فوضعت فم الإبريق في فمه؛لكنه وكزني فانسكب الماء على قميصه.التزمت السكون.كانت أعصابه ترتجف..شبه منهارة,شرايينه الدقيقة منشدّة بشكل مريع ..بعد دقائق ارتخى كالسكران و ارتمى رأسه على الوسادة ..
فككتُ أزرار قميصه دون أن يغضب أو يقترف شيئًا من جنونه.بانَ صدره,كان كثيف الشعر الممزوج بالشيب,عند رئته اليمنى جرح بسيط,و الجلد المغلف قلبه يرتفع و يقع باضطراب نبضاته..” يكاد التمزق ” .
أجهل لماذا سألته عن اسمه !
قال و قد خُيّل إليّ أن صوته ليس له : أحمد رزق .
في منتصف تلك الليلة؛تغير.تحوّل إلى رجل مُطيع !.قالَ أنه تلحمي,أفقد بصره رصاص طائش من بنادق المحتل..و بالمجييء إلى غزة أراد الاغتسال من ليل مدينته..فاذا به يغتسل بليل غزة.ليل على الأقل لم يُفقده بصره ( ! )..و عن حالته النفسية,أخبرني ما هي إلا هروب و همي من عالم ما وراء أسوار المستشفى و خلف قضبانها ..
– الحياة خارج المستشفى ليس لها رائحة معقمات..رائحتها ملوثة..صدقيني..ابقِ بنقائكِ و لقمة عيشكِ هنا ..
– لكنني سأصاب بحالة نفسية ..سأتعقد إن بقيت أعمل ممرضة هنا ..
– لِـمَ ..لماذا ..؟!
– الجرحى يجرحونني ..
أسمع أصواتا مخيفة تصدر عن المرضى و المعقدين ..
– أفضل من أن تسمعي أصوات النعاة ..أفضل من أن تتشردي بين الجثث و أصوات أكبر من صوت البكم ..
* لِـ نازك الملائكة

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s