أرواح صغيرة

تتشبثُ أصابعكَ بأطراف الشرشف الخميل ذو اللون البني الغامق,عينكَ اليمنى مغمضة و الأخرى المفتوحة بكسل تنظر عبرها إلى ساعة الحائط المعلّقة فوق الباب كالمشنقة ,الخامسة صباحا,مآذن الجوامع تبشّر بالعيد..تصدح بالتسابيح و التكبيرات.ترتمي يدكَ بلا وعي على صدرها,لم تستيقظ على ثقلكَ.ما تزال نائمة كقطة أليفة.تنتبه أن ضوءا ما ينبعث من هاتفكَ اللاسلكي..خافت,يُومض و ينطفئ كعينيْ شحاذ يتوسّل.تتفقّد من أنها ما تزال نائمة.تختطفه يدكَ من على الطاولة الصغيرة المركونة بجانب سريركَ,فيما يدكَ الأخر ما تزال على صدرها و أنتَ ممد على الفراش ..كأنكَ نائم.تقرأ الرسالة التي وصلتك” إزا كنتَ صاح رِنْ لي”.ينطفئ الضوء.تحذف الرسالة.لم تعُد قادرا على النوم.التفكير أنعشكَ..بل شلَ رأسكَ و كامل جسدكَ.
الآن هِيَ نائمة.أنتَ تفكّر.تتذكّر.تتوجّع.طفلكَ يفتح باب الغرفة على حين غرّة,ويشد الشرشف عن جسدك,فتفزع و ينتشلكَ تهليلهُ من دوامة التفكير التي اغتالتك.تتناهض بألم,لَم تَشَأ أن تغبّر و تكسر فرحته,قبّلته و ربّت على كتفه.خرجَ و تركَ باب الغرفة مفتوحا..لمحتَ ابنك البكر يهمُّ بغسل وجهه.”إنها بعمر أولادكْ” “لستَ مراهقا يا رجل”..تتحدّث مع نفسكَ بصمتٍ , بلا معنى أنتَ تكذب عليكَ لتتوهّم أكثر…
تستيقِظ زوجتكَ.تمسك بيدكَ,تقول كأنها تقرأ فيكَ شيئا ما تخفيه عنها:”هل أنتَ على ما يُرام ؟.تبتسم و تقول رغما عنكَ : كُل عام و حبيبتي بخير..(تتنهّد)..نعمْ.
تبتسم و تُشعركَ بالأمانْ و الاطمئنان.
***
لا أعلم من أين تفجّر هذا الحب بقلب رجل قد بلغ الخمسين من عمره,رجل شابَ شعر رأسه,يتكئ على عكّاز,ظهره آيل للتقوّس…متزوّج و له أبناءْ .
فكّرتُ بتلك الفتاة الملعونة,لم تقل لي يوما”أحبك”,و لو مرة منذ تلك اللحظة التي ارتعش في أوردتنا نبض جميل..خدَرٌ خفيف..عطرٌ أزرق مريع لكنه وّرِع كأنه راهب نثر رهبة الورد فينا و سَحَرنا.
غمرني تمرد لذيذ.أدركتُ أنني سأعترف بشيءٍ.لكن بكلماتٍ مُلمّزة,قلتُ لها:حين تأتين,سأضعُ يدي في يدكِ.ورّطتها بالخجل.صمّتَتْ هنيهة.فجأة قالت بصوتها السكان المفعم بالطفولة و الأمان : إذا سمحَ لنا الاحتلال.
كِدتُ أقطّع أسلاك الهاتف من شدة الغيظ,كيف للاحتلال أن يتدخّل بحبنا أيضا؟..لَم تخطر ببالي الحواجز التي قسّموا بها وطننا إلى أوطان صغيرة امتلأنا فيها كالنمل و انتشرنا كالجراد..فقراء,نحسب لكل صغيرة ألف حساب..
قالتْ:كِيف الشتا عندك برامالله؟
قلتُ و فقاعة نار ينخزها صوتي فيسيل صابونها الحار في حنجرتي : مثل الرصاص عندكِ بغزة.
قهقهَتْ.لأوّل مرة أسمعها تضحك.قالتْ: و الناس؟
أبعدتُ سماعة الهاتف عن أذني..أبدو مع هذا السؤال كأنني مُنذرهم إلى ضباب كيف..كأن الناس فقط هم زوجتي و أولادي!.يا ترى هل أغالي بالأمور؟..هل هذا الفتاة الصوتيّة تُعتبر أمر؟..أمر سيُغير مجرى حياتي ؟!.. أمر لا بد أن أحسم معه معمعتي بنتيجة مقبولة أو غير مقبولة , المهم نهاية له . لأنتهي من هذه الغوغاء التي تُدوّي برأسي مُذ عرفتها.
***
للوهلة الأولى ظننتُ أنني أثرثر مع قطعة حديد.لكن تأكّد لي أنه انسان,كائن حي :مثلي..مثلكَ..مثلكم جميعا.يتنفس,يأكل,يشرب,له قدمين و قلب..يسير و يَشعر..
كان بالنسبة إليّ فارس أحلام من نوع حلم آخر ,حلم لاجئة,تكوّنت مثل طحالب خضراء في زوايا الأزقة..لها رائحة البحر لكن الملل و الوجع امتصا الرائحة الصاخبة و ضمّخا كل شيء..كل شيء برائحة عفن الخبز.
كنتُ بكل حواسي أحس و أستشعر ذاكَ الوجيب بقلبه.انصتُ إليه حين يصلني على شكل اهتزازات الكترونية أو دوائر فضيّة إثر قذف حجر صغير في بركة ماء ..نبضات قاسية,مشاعر تشق مسافات من جسده و من طرق ملتوية لتصل إليّ..تلامس شغافي,تخترقه,فتنبثق نبضة غامضة من نبضات مفاجئة كموسيقى من مقهى أو فراغ فسيح,حر طليق..
لم يسمح الاحتلال لنا بالخروج من غزة.المعبر المؤدي لمصر أُغلق.و البقيّة مُشمّعة بالشمع الأحمر الجاف.كلانا تورط بالآخر!.لَمْ أشأ أن أخذله.بأي طريقة بحثت عن منفذ لهذا السجن و البرزخ الذي بيننا…
و أخيرا قلتُ ” سأقول أحبك” رغما عني!.
كان فجر العيد.أرسلتُ رسالة قصيرة “إزا كنتَ صاح رِنْ لي” أيْ هاتفني .
و كانت الصدمة أن لَم يرُدّ عليّ..رعدٌ صعقني من غيمتين تصادمتا في السماء و تحطمتا فوق رأسي..انتظرتُ حتى ثالث أيام العيد,لكنهُ لَم يَرُد.
***
ارتشفت مع زوجتكَ فنجان القهوة على عجل,فأولادكَ ينتظرون”العدِيّة”,و أخوتكَ تحت شرفة شقتكَ ينتظرونكَ لبدء المعايدة على الأقارب و أخواتكَ التي أوصاكم بها والدكم.كم تمنيتَ المرض آن ذاك,لتبقى متكوما على الكرسي أطول وقت,تتخلص من تفكيركَ بها,وتصل إلى نهاية ما ..
زوجتُكَ تشكّ فيكَ..
مضى ثلاثة أيام من العيد و أنتَ بلا شيءْ.انتهى العيد.لم تنتهِ إلى نهاية.تشتت فكركَ,اضطربَ قلبكَ.تمسك الهاتف و تقول بلهفة:”حبيبتي..
تقتطع صوتكَ قائلة:”أعتذر عمو..كنتُ أريد أن أقول لكَ كل عام و أنتَ بخير “..
تريدُ(أنتَ) أن تقول مُتقحّما شيئا,لكنها تتابع بسكون(قلبها يتمزق):”أزعجتُكَ في الرسالة..ربما كنت نائم و أيقظتُكَ..

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s