لم تكن وحدها هناك

حين هبطت الطائرة بنا في مطار ” دبي ” و لم نكن ندري ذلك , ران صمت مفاجئ بين المسافرين . هدير المحركات قضى على أصواتنا جميعًا , و لحظة سماع أحدهم يقول من غرفة الطيّار ” وصلتم سالمين ..انزلوا الآن ” , انفجرت الحناجر يغمرها الفرح و هي تقول كمن تخلص من صخرة كانت قد صلبت على صدره : الجنة الجنة ..وخلال وقت قصير , لم أرَ أحدهم غيري ! .
كنتُ الوحيدة التي سافرت بلا أهل أو صديق , درتُ حولي إزاء شعور غامض دفعني للحمق , ظننت أنني رأيت انسانا أعرفه , لكن كان ذلك مجرد وجهي مرّ على زجاج نافذة يلمع كالمرآة .
حملتُ حقيبتي و خرجت من المطار , لم يكن سوى ظل حار مرمي على الأرض , تصخده شمس الامارات الكاوية , توجهت إلى مكان العمل قبل أن أسيح من الشمس و الوحدة و الغربة المقدرة .

دبي !!
إذن هذه المرأة البدوية المتحضرة التي ستدفع الحياة في عروق أهل غزة الميتين ! . قبل أن أسافر , لم يتوقع أحد قبولي في منح الوكالة , و حين استلمت الفيزة , فرح والديّ و اخوتي لأجلي ..لأجل قربة مال ستندلق عليهم . أعمامي الذين لم يتعرّفوا علينا يوما أتوا زمرا للمباركة , و في كل مرة أضع يدي بيد أحد المباركين من الأقارب والغرباء كم كنتُ أتألم , على ماذا يصافحونني ؟ على هروبي أم على كل هذا الفقر المتكوم بي ؟ ..بأهلي الجياع ؟!
في البداية رفض عمي الخبيث , احتجّ على سفري للعمل : فكيف لفتاة في العشرين من عمرها تسافر بدون ” محرم ” ؟ , و صار كأكبر شيخ في البلد يفتي ويُحرّم سفري ..كانت أمي تبكي وقتذاك . و أبي ,لكن بداخله ! لكن هذه الفرصة للانتصار على الجوع و الوجع ..
سمعتُ أحدهم يوشوش أبي ” ستكون ابنتكَ سفيرتكم في الامارات و تسحبكم كلكم ” .
بكيتُ كثيرا : فرح , حزن , دمع انسكب ممزوج بأنواع المشاعر . ” موهوم بي ..سأكون سفيرة الفقراء و الوجع “.

دخلتُ مقر الجريدة , عرفني الخادم الهندي على مكتبي مباشرة , كانت الغرفة رطبة كالماء الآسن . في كل زاوية ينحشر مكتب صغير في مقدمته بطاقة مكتوب عليها اسم صاحبه . رحب الجميع بي بكلمات سريعة , بينما عيونهم مشغولة في قراءة الصحف .
بلا وعي انحدر رأسي إلى صدري لشدة النعاس و الانهاك , فأنهضني صوت ثقيل : ” اذهبي الى غرفة نومكِ الخاصة” . كنت نصف نائمة حين سمعته . هرولت إلى غرفتي في القبو و ارتميت كالسكرى على السرير , نمت بدون مقدمات التنويم بالتفكير و الوهم و الأحلام ..و لم أنهض بعدها إلا في الصباح , نمت عشر ساعات , كم بدت قصيرة ! . نهضت أيضا متعبة ..لا أدرِ لماذا بالضبط ؟ : غربة الروح ؟ القلق؟التوتر؟لماذا ؟!
جلست إلى مكتبي , رموا لي ورقة لأعيد كتابتها على جهاز الحاسوب . لم تستطِع أصابعي الضغط على مربعات لوحة المفاتيح , انتبهوا لحالتي : وجهٌ أصفر شاحب , يدين يكاد البياض يتدفق منهما فالدم جفّ تماما من عروقي .
التفتُ حوالية فوجدتني في غرفة بيضاء , تعبق برائحة مألوفة .. آه انها رائحة المحلول . نعم !
دخلت إلى الغرفة امرأة , أمسكت بيدي و تمتمت : طِبْتِ ..صرتِ وردية و دافئة .
استعجلت بالقول و شفتايَ أحس احتكاك بعضهما بالأخرى : أين أنا ؟
قالت وهي تمسد شعري : في المستشفى
– لماذا ؟
بدت و كأنها ترغب في تغيير الحديث , نقرت بابهامها على جبيني فيما تقول : أنا صديقتكِ في العمل
فتحتُ عينايَ حتى أقصاهما و قلتُ مندهشة : حقًااا
و فجأة ضاقت عينايَ ..يأس غامض اغتالني , سألتُ : من أين أنتِ ؟
عبثًا سألتها و لم أشأ سماع اجابتها خوفًا من الخيبة
– غزة
رفعتُ رأسي و قلت باقتضاب : مثلي غزة ؟
هزت رأسها . شعورها و احساسها السعيد كان يشارك قلبي و يُقاسم غربتي . لم أكن وحدي هنااااك .

* الحياة الجديدة

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s