من مذكرات الملل

“العمر قصير..لكن النهار طويل”
..غوته

الساعة الرابعة صباحا:
ارتجف تحت وسادتي شيء ما,كنتُ مرهقة من السهر على مذاكرةٍ لأول امتحان من امتحاناتي في كلية الآداب/عربي..حاولت أن أفتح جفوني,لكن أبدا النعاس يسيطر عليّ و النوم يخدرني,مددت يدي تحت الوسادة,سحبت القطعة الصغيرة التي ترتجف,وضغطتُ بكسل شديد على أيّ زر فيها..ثم عدتُ أغط في نوم عميق..بلا قاع!
بعد وقت,لا أعرف بعد ماذا بالضبط,فوجئتُ بيدي تتسلل تحت وسادتي,سحبتْ القطعة الصغيرة من جديد,كانت شاشتها الزجاجية معتمة,ضغطتُ على الزر الأحمر و نزعت الشرشف عن جسدي..
إذنْ؛كان منبه الساعة يرتجف لأنهض!..لأفتح الكتاب و أكمل المذاكرة اللعينة..قلّبتُ الصفحات,مائتي ورقة تعج بكلام لن يقدم لي شيء مفيد في الحياة..عليَّ أن أدرس و أحفظ و أحشو رأسي هراء يجر المتاعب لي..
و حين يئستُ,قررتُ أنني انتهيتُ من حفظ أول كتاب,صفقتُ دفتيه بعنف, و تمددتُ على الفراش..الدائرتان السوداوتان في عيني تتحركان بلا اتجاه محدد,
– كأنني جسد بلا روح
اقترب موعد الامتحان,شعور آسن بالخذلان يتفشى سمه فيّ,كدتُ أغفو و أنسى الامتحان لولا ذلك الصوت..صوت خشخشة ينبعث من فوقي,رفعتُ رأسي و نظرتُ إلى مصدره,فإذا بصرصار ذي أجنحة يرفرف…قفزتُ مذعورة و هرولت خارج الغرفة..ارتديتُ ملابسي و زحفتُ نحو الجامعة..
الطرقات خالية من السيارات,فالاحتلال منع تزويد محطات البترول بالبنزين و السولار..و غاز البوتجاز,و كم أحمد الله أنّ غاز الأوكسجين خلق حرا غير قابل للاحتلال و الحصار..والمنع!
قطعتُ نصف المسافة مشيا حتى وجدتُ أخيرا سيارة قذرة انتشلتني و قذفتني إلى الجامعة..
المدينة سابته..المحال و الدكاكين ما تزال مغلقة..الريح الكمين الذي يهب بين الفينة و الفينة ينذر بموت بطيء..
وطأتُ بوابة الجامعة..صديقاتي يتسطّرنَ على الكراسي المرصوفة داخلا قرابة البوابة..ابتسمن لي من بعيد..ألقيتُ عليهن تحية الصباح بإيجاز..كنّ يتناقشن و يراجعن الدروس,يا للتعاسة..أرجعني ارتباكهن إلى الوراء..إلى اللاشيء و العدم من جديد..إلى السؤال الذي يلح علي باستمرار:”لماذا عليّ أن أدرس ما لا يفيدني و لا أحتاج إليه؟َ”..من هذا السؤال الذي أدمنته,انبثقت فكرة المستقبل في رأسي,أن أصبح محاضِرة أكاديمية و في هذه الجامعي..أخبرتُ صديقتي فاطمة بهذا الشأن -ابنة دكتور الأدب و النقد العربي الذي يحاضرني-..قالت: “التعليم في الجامعة صعب جدا..كم ينهك أبي”,ثم بعد صمت تابعت: “أنتِ هادئة يا كوثر..لا يناسبكِ التعليم,البنات(تقصد الطالبات) سيشيبن شعر رأسكِ”..أبدا لم أتأثر بكلامها,كانت تتحدث معي بشفقة!,فوجهي الطفولي ترسمه في عينيها العسليتين بصورة البنت الصغيرة المدللة الرقيقة الحساسة…وكل الصفات المسكينة المثيرة للحزن و العطف !!
أخذتُ من إسراء رقم قاعة الامتحان و انصرفت..
امتلأت القاعة..الساعة تشير إلى التاسعة تماما..دخل ثلاث مراقبين,وزّعوا الأوراق,سرى الخوف و الارتعاش في الأصابع الملتفة حول الأقلام, و على الورق..و انتشر شبح السكون بين المقاعد و على الجدران و فوق السقف..
كانت القاعة وااسعة,تتسع بحجم ارتباك الطالبات..
وصلتني ورقة الامتحان..كتبتُ اسمي و رقمي الجامعي..كنتُ عادية و لم أشعر بأي ارتباك تجاه ورقة الامتحان..بدأتُ حل السؤال الأول,خمس و عشرون سؤال”صح أو خطأ”,أجبتُ عليه..و طبعا معظم إجاباتي دونتها بطريقة”هادي بادي”!..أما الأسئلة الأخرى فأجبت عليها كيفما اتفق مع ما دسسته برأسي..
في النهاية ,بعد ساعتين من عراك ذاكرتي مع النسيان و مع الأسئلة الخبيثة,قمتُ بإجراءاتي النهائية على الورقة,مسحتُ الإجابات بنظرات جاحدة و سلمتُ الورقة للمراقب..وتحررتُ من القاعة السجن و من أول كتاب !
عند النافورة التقيتُ بوفاء – صديقة طيبة – ,تمشّينا قليلا بين ممرات العشب و كنت خلال ذلك أصطدم بأكتاف المارين, و أفاجأ برؤية صديقات قديمات,صديقات المدرسة,تشدني الواحدة منهن إلى صدرها و تضمني و تقبلني..أقبلها بحياء,فأنا كثيرا ما أتفادى لقاء صديقة تعبر عن شوقها إليّ بالقبلات!..
انحدرتُ مع وفاء إلى دائرة القبول و التسجيل في الجامعة,انحدرتُ بكامل بؤسي..كانت غرفة التسجيل كالقبو,لكي نصل إليها علينا نزول عشر درجات كبيرة تحت الأرض,ضحكت في نفسي على ذلك فكأنهم يعرفون بأن هنالك طالبة مهملة الجامعة!..
اقتربتُ من موظفة التسجيل,دفعتُ لها أربعين دينار, و سجلت للفصل القادم من الدراسة الجامعية..

12/5/2008
الساعة الثامنة مساء الاثنين

One thought on “من مذكرات الملل

  1. ما الفائدة من قراءة ما عاشه آخرون .!!مؤكد أن كثيرين لا يجدون متسعاً من الوقت لقراءة حياتهم وكيف اذ ذاك حياة غيرِهم ..” أفكار راودتني عندما قرأت كلمة ( مذكرات).. “تجاهلت حقيقة أكبر من كونها مجرد فكرة .. حقيقة كون ما لم نعشه وعاشه آخرون سنعيشه نحن في لحظة ما .. ولمَ لا أكون عرّافة مثلاً وأقرأ ما سأعيشه هنا ..أراحني الوجود في دفترك ..أراحني ذلك جدّاً

    Like

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s